تعتبر الألعاب امتدادًا للفنون التي يستخدمها الغرب (والشرق إذا أراد) لترويج أفكاره بشكل غير مباشر. كذلك هي بعض الأفكار التي تحاول شركات الألعاب تصديرها في ألعابهم. أؤمن بأن الألعاب يمكنها أن تكون فعالة في نقل صورة حضارية إيجابية عن شعب أو ثقافة ما، ويمكنها أيضًا أن تجعلك تغير رأيك في بعض الأمور الحياتية إذا صُنعت تلك الألعاب بالشكل الصحيح. اليوم نحن بصدد تناول بعض النقاط التي أتمنى رؤيتها في لعبة عربية قوية، تعطنا بذلك فرصةً لاستعراض أفكارنا، وتعريف العالم بنا أكثر، وربما تقريبه خطوة للتعرف على حقائق بعض القضايا الشائكة في منطقتنا. فهيا بنا!
1-تناول قضايانا المهمة، وتأريخ لحظات انتصارتنا
في 2001 صدرت لعبة عربية من تطوير استوديو أفكار ميديا وإنتاج دار الفكر، إنتاج عربي سوري مشرف، تحت عنوان “الرماد” تدور أحداثها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة حول معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. هي لعبة تصويب في المقام الأول، ولكن مجهودات المطور العربي لم تقتصر فقط على صنع لعبة تصويب حيث تشعر بأن التصويب بها “ممتع” وإنما تضمين قصة مستوحاه من أحداث حقيقية عن انتفاضة الحجارة، ومجزرة المسجد الإبراهيمي (في الجزء الثاني المسمى تحت الحصار) وتضمين مقاطع سينيمائية رائعة -مقارنة بالإمكانيات المتاحة وقتها- لتكون بذلك أول لعبة عربية بذلك الطموح الكبير.
تحت الحصار لم تكن مجرد لعبة عابرة في تاريخ المطور العربي الذي هو بالمنسابة حافل بالمحاولات الجاهدة لإنتاج ألعاب فيديو رائعة، وإنما هي مصدر إلهام لما يمكن أن تكون عليه الصناعة العربية للألعاب في المستقبل. حجر أساس عجز الكثيرين عن وضعه بالشكل اللائق ليكمل من بعدهم بقية العقول العربية المبدعة ذلك المشوار.
عندما ألعب Call of duty مثلًا وأجد أن التمجيد لا يتوقف للجندي الأمريكي، وتجسيد بعض بطولات هؤلاء الجنود، أو حتى تصوير أهم لحظات الحرب العالمية الثانية مثل إنزال نورماندي أو غزو ستالينجراد. لا يسعني وقتها سوى التفكير فيما يمكن أن يقدمه المطور العربي إذا أتيحت له الإمكانيات. كم اتمنى ان أرى وأعيش لحظة عبور قناة السويس في 1973 كما عشت لحظة إنزال نورماندي. كم أتحرق شوقًا لأن أعرف كيف كانت الأجواء في لحظات أمتنا الفارقة.
أبعد من ذلك، أعتقد بأن الألعاب يمكنها أن تكون فرصة ممتازة لتعريف الناس بقييم ديننا الإسلامي (ديني انا شخصيًا). هل يمكنك تخيل أن تكون لعبة فيديو سبب اعتناق أحدهم دين الإسلام أو على الأقل، تغيير وجهة نظره عن ذلك الدين بشكل إيجابي؟ أعتقد بأن اللاعب العربي لا يدرك بأن الألعاب هذه الأيام أصبحت أداه لنشر الفكر تمامًا كما كان الشعر، والمسرح قديمًا. ولذلك نجد محاولات جُلها هزيلة في تقديم ألعاب عربية تخاطب الأذهان، حتى وإن لم تتوفر الإمكانيات الكبيرة. وهذه الخطوة هي التي اتخذتها “تحت الحصار” بمنتهى الجرأة منذ ما يقارب عقدين من الزمن، فهل من مزيد؟
2-تقديم أفكار أصلية مستوحاه من تراثنا العربي
يعرف الجميع بأن قصص علاء الدين، وسندباد مستوحاه من التراث العربي، وقصص “ألف ليلة وليلة” التي تعتبر أحد أغنى المصادر العربية لقصص الأفلام أو الألعاب. يكفي أن أقول لك أن أحد أنجح سلاسل الألعاب وهي Prince Of Persia بنت عالمها على أسس أقرب للثقافة العربية من أي شيء. السؤال هنا، ما الذي يمنعنا من رؤية لعبة عربية قوية تقدم أفكار ذات خلفية عربية؟ العذر المعتاد يكون “الإمكانيات الضعيفة.” وهو بالمناسبة عذر في غير محلة. دعني اخبرك لماذا في قادم السطور. ولكن قبل أن أتطرق لذلك، علي أن ألفت نظرك يا صديقي بأن الوطن العربي مليئ بالخلفيات الحضارة المختلفة. لدينا الحضاراة الإسلامية، وقبلها الحضارات القديمة مثل المصرية القديمة، والآشورية،والبابلية والسومرية وغيرهم. أي أننا لا نحتاج إطلاقًا إلى اقتباس الأفكار. كل تلك الحضارات كانت تمتلك نصيبها من القصص التي تستحق ألعاب أكشن، أو أساطيرها التي تستحق لعبة رعب مثلًا.
3-الاهتمام بالأداء التمثيلي
قد يظن البعض أن الأداء التمثيلي يعني فقط المقاطع السنيمائية ومدى جودتها، وهو ما يحتاج إلى إمكانيات هائلة طبعًا. ولكن لا يا عزيزي، الأداء التمثيلي في ألعاب مثل Sherlock Holmes و Call of cathulu و Life is strange ليست رائعة ولكنها تفي بالغرض مقارنةً لما تقدمه من قصة.
هناك مثال أحب أن يتم تسليط الضوء عليه ليتأكد المطور العربي بأن الإمكانيات ليست كل شيء، وهي لعبة Disco Elysium. هذه اللعبة تدور معظم احداثها داخل عقل البطل، تتصارع فيه كل مشاعره بحيث يكون لكل شعور بداخله صوت واداء تمثيلي فريد من نوعه. في كل حدث يجري في عالم اللعبة تكون لكل شخصية (شعور) تعليقًا عليها من منطلقها الخاص. فمثلًا شعور الغضب دائمًا ما يشعرك بأن الوضع لا يتحمل السكوت عنه، ويدفعك إلى القيام بأفعال متهورة، ويعبر عنه صوته التمثيلي العظيم.
لعبة أخرى تقدم تمثيلًا رائعًا بإمكانيات قليلة هي Chernobylite التي تقدم قصة وشخصيات ومقاطع سنيمائية ولكن مع وضع كل الشخصيات لأقنعة الوجه لتفادي أثار الإنفجار النووي لمفالع تشيرنوبل. هذا التبرير القصصي أتاح الفرصة للمطورين لإزالة عبئ تطوير وتصميم وجوه الشخصيات وتعابيرها المختلفة، وجعلهم قادرين على التركيز على بقية عناصر اللعبة، بما في ذلك الأداء الصوتي. لم أجد في أي لعبة عربية حتى الآن أداءًا صوتيًا احترافيًا، ربما لأن أغلبية المطورين مستقلين ولا يمتلكون إمكانية الدفع لممثلين فعلين بالمجال، ولكن الاهتمام بالتمثيل وإن كان صوتيًا فقط ينقل اللعبة إلى مراحل متقدمة من الجودة، وهي امنية أتمنى أن أراها في ألعاب عربية قريبًا.
4-تقديم أفكار مختلفة في أسلوب اللعب
بالعودة إلى مثال Disco Elysium، لا يجب أن تكون الألعاب العربية ألعابًا نمطية. إما لعبة تصويب من المنظور الأول، أو لعبة أكشن من المنظور الثالث. لا يجب أن تكون لعبة قصصية أيضًا. هناك ألعاب رائعة لا تقدم قصة ولا رسومًا رائعة وأهم تلك الألعاب مثلًا لعبة Limbo.
تعتبر لعبة Return Of Obra Dinn أحد أكبر الأمثلة على عدم وجوب توفر الإمكانيات إذ تقدم واحدة من أفضل القصص التي رأيتها في عالم الألعاب برسوم متواضعة جدًا وألوان بيضاء وسوداء فقط. كأنك تلعب لعبة بأجواء أفلام الغموض القديمة.
أتمنى أن أرى لعبة منصات (Platformers) أو لعبة تحقيق عربية تقدم ميكنكيات لعب مختلفة عن تلك التي يُطلق عليها (الألعاب الدارجة) أو Mainstream Games.
5-دعم مجتمع اللاعبين للألعاب حتى ولو لم تكن في أفضل مستوىً
أخيرًا، هذا العنصر غير مرتبط بشكل مباشر باللعبة نفسها، وإنما برد الفعل تجاها في مجتمعات اللاعبين التي للأسف لا تدعم الألعاب العربية المستقلة، كم أتمنى أن يتغير ذلك خصوصًا وأن من يقوم باستخدام مشغل ستيم باستمرار يعلم تمام العلم بأن سوق الألعاب المستقلة هو سوق عملاق، ولكن عندما تكون لعبة عربية فإن ذلك السوق الذي تستطيع تلك الألعاب استمداد أرباحها منه يصبح أكثر محدودية، وبالتالي عدم نجاح الألعاب المستقلة فقط لأن اللاعب العربي منبهر بالألعاب ذات الميزانيات العملاقة والرسوم السينيمائية يجب أن ينتهي. لا يجب أن تكون ألعابنا كلها مثل Red dead redemption. نعم، قد أحب أن أرى لعبة عربية بمستوى Red dead redemption ولكني أيضًا أريد أن أرى تجارب مٌبدعة وجريئة تعبر عني كمواطن عربي وعن خلفيتي الثقافية ومشاكل منطقتي من أكبرها إلى أصغرها.
تذكر يا صديقي -اللاعب العربي- أن الألعاب الناجحة لا يجب عليها أن تكون لعبة سينيمائية بميزانية عملاقة، وأن الألعاب العربية تحتاج منك اهتمامًا ودعمًا أكثر مما تحصل عليه في الوقت الحالي، وإذا قمت بتجربة أحدهم ولم تعجبك، قدم لها نقدًا بناءًا إن استطعت، وإن لم تستطع، حاول أن تستمتع بوقتك معها بعيدًا عن المقارنات مع ألعاب الاستوديوهات الكبيرة التي تسبقنا كثيرًا في خبراتها.
رسالة إلى مطوري لعبة تحت الرماد:
دعوني أختتم هذه المقالة برسالة إلى القائمين على تطوير لعبة “تحت الرماد“
تعتبر لعبة تحت الرماد أول لعبة عربية ثلاثية الأبعاد على الإطلاق، وإذا قُدر أن يكون لصناعة الألعاب العربية شأنًا كبيرًا، ستكون “تحت الرماد” المشروع الملهم لها، بقدر ما كانت GTA 3 مثلًا ملهمةً لألعاب العالم المفتوح.
لقد قدمتم عملًا فنيًا شبه متكامل، أكبر من مجرد لعبة فيديو وإنما هو استغلال لإمكانيات ألعاب الفيديو في إيصال رسائل نبيلة وإنسانية عن شعوب أخرى ربما لا يعلم الكثيرين عن معاناتها. قدمتم مثالًا يُحتذى به في أن تكون الألعاب فنًا وليست مجرد محتوًا ترفيهيًا. لقد ألهمتني لعبتكم كثيرًا للكتابة باللغة العربية عن الألعاب حتى نحافظ على الأمل في أن تنمو تلك الصناعة في عالمنا العربي وأن نرى ألعابًا عربية في يوم من الأيام تنافس على ألقاب مثل “لعبة العام.”