مقالات

توظيف التجربة السمعية في سرد قصص الألعاب: الفكرة الأكثر فعالية في بناء العوالم الافتراضية

هل حدث في مرة أنك كنت تتنقل في عالم من عوالم الألعاب المفتوحة بسيارة أو مركبة ما وقمت بالاستماع للراديو لتجد أنه يعطيك تفاصيل غزيرة عن عالم اللعبة؟ حسنًا دعني أخبرك بأن استخدام المذياع أو الراديو (عناصر التجربة السمعية) بدأ كاتجاه لإثراء عالم اللعبة سرديًا منذ زمن بعيد. ربما تمتلك سلسلة GTA السبق في ذلك، ولكن هناك الكثير من الألعاب التي أتقنته وجعلت منه أداةً لا غنى عنها في عالم اللعبة. في هذا المقال نستطرد في الحديث عن توظيف التجربة السمعية،و كيفية استخدام الإذاعات وأشياء أخرى كأداوات سرد للقصة، ونستشهد في ذلك بنماذج من الألعاب، فهيا بنا.

كيف بدأت في إدراك تأثير التجربة السمعية على تجربتي ؟

في لعبة Alan Wake يقابل Alan أحد الأشخاص الذي يبدي إعجابه بكتاباته المرعبة، ويطلب أن ياخذ صورة معه، ليتضح لك لاحقًا أنه مقدم برنامج شهير في البلدة على الراديو، واسمه Pat Maine. اكتشفت ذلك بنفسي من خلال تفاعلي مع أجهزة المذياع (الراديو) في بيئة اللعبة. أدركت حينها أن هذه القطعة الإضافية من المعلومات القصصية كان من الوارد التغافل عنها أو عدم الحصول عليها عن طريق -وببساطة- عدم التفاعل مع المذياع.

Alan Wake Remastered Performance Analysis - NotebookCheck.net Reviews

خلال أحداث اللعبة نفسها ستصادف الكثير من الأشياء غير الاعتيادية، كالأعداء البشريين العدوانيين، على هيئة ظلال سوداء، والكثير من العناصر الخيالية، والتي تبدو لك -كلاعب- ولـ(ألين ويك) البطل حتمًا أضغاث أحلام، أو تهيؤات عنيفة، وما يعزز ذلك الشعور بأن المشكلة هي في واقع الأمر بـ(ألين) وليست بعالم اللعبة هي المقاطع التي تسمعها من حين للآخر من برنامج المذيع Pat Maine الذي أشرت له من قبل، حيث يدير حوار برنامجه مع ضيوفه بشكل هادئ، جعلني أظن أن “لو كان هذا برنامجًا حقيقيًا لسمعته”. برنامج Pat يدعو للهدوء، ويتحدث حول جديد المدينة من أحداث، ويعامل ضيوفه بلطف شديد، وكل الأشياء التي تبعث على الهدوء التام.

أتذكر في حلقة من الحلقات اتصل أحد سكان البلدة الصغيرة ليطلب من الناس التبليغ عن كلبه إذا وجدوه، ويهم Pat بطمأنته قائلًا : لعل الكلب ذهب ليلعب مع أحد الجيران، أعتقد أنك ستجده عائدًا في أي لحظة الآن. يتصل بعده مواطن آخر ليشكو لـPat سماعه أصوات غريبة في الغابات خارج منزله، حيث يرد عليه المذيع بأنها على الأرجح الرياح بالخارج.

تلك الفجوة التي تضعك اللعبة أمامها، بين ما تراه (عناصر فوق العادة) وما تسمعه (برنامج الراديو الطبيعي والعفوي جدًا) يشكل جوهر تجربة الرعب في لعبة Alan Wake. لقد جعلتني مظاهر الحياة الطبيعية -وإن قلَّت- حول البطل أظن بأنه مريض نفسي وأن النهاية ستكشف لنا هذا. أشعر بأني ظلمته لأني آمنت بالفكرة كثيرًا حتى صدمتني القصة بأن ما خفي كان أعظم.

هكذا بدأت فكرة مثيرة تتسلل إلى دماغي، وهي مدى تأثير “السرد البيئي” على مدى انغماسنا في عوالم الألعاب الافتراضية. يمكنك أن تهم باستكشاف عالم لعبتك الجديدة، وتجد في طريقك بعض المعلومات أو الأشياء الإضافية التي تضيف إلى تجربتك من خلال الإضافة إلى معلوماتك عن العالم الذي أنت موجود فيه. هذا المفهوم ليس جديدًا في الألعاب، وأعتقد أنه يميز ألعاب الفيديو الحديثة كبيئة سردية عن السينما مثلًا.

لكن ما هو أكثر من ذلك، هو أننا عادةً ما نركز على الأساليب السردية التقليدية. فعند قراءة أي مراجعة، من السهل أن تجد الكاتب يشير إلى المقاطع السينيمائية وجودتها، مدحًا أو ذمًا، ويستطرد في الحديث عن سينيمائية اللعبة وكيف أن الأداءات التمثيلية مقنعة، ولكن قليلون هم من يشيدون بعناصر السرد البيئي، أو استغلال أي عناصر أخرى لسرد الأحداث. منها مثلًا، توظيف التجربة السمعية!

مثال على بعض الألعاب التي نجحت في توظيف التجربة السمعية

GTA

منذ بداية سلسلة GTA الفعلية مع الجزء الثالث، تعتبر السلسلة محاكاة واقعية وهزلية في الوقت نفسه للحياة في أمريكا، ومرآة على خفايا ذلك المجتمع في مختلف مراحله. وبما أن اللعبة تتكون من عدد كبير من الإصدارات، كل إصدار يدور في حقبة زمنية مختلفة فإن الأفكار التي تتطرق لها تلك الأجزاء تختلف جذريًا عن بعضها.

Grand Theft Auto: San Andreas - "CJ" Carl Johnson Arrested by Frank Tenpenny Intro Cutscene (2019) - YouTube

جزء Vice City كانت تدور أحداثه في السبعينيات حيث ازدهرت تجارة المخدرات بين أمريكا ودول أمريكا اللاتينية، خصوصًا في ميامي، أما إصدارة San Andreas كانت تدور أحداثها حول الأمريكيين من ذوي البشراء السمراء، والعنصرية التي يواجهونها، والظروف الصعبة التي يعيشون فيها جاعلة اتجاههم للجريمة خيارًا أسهل من أن يحيوا حياة مستقيمة.
أما الجزء الرابع فكانت تدور أحداثه حول فكرة الهجرة غير الشرعية إلى أمريكا، ومحاولة عيش “الحلم الأمريكي”.

توظيف التجربة السمعية , Audio Experience

أما الجزء الخامس، فهو عبارة عن مزيج من كل شيء حول المجتمع الأمريكي. يمكنك اعتباره مسلسلًا واقعيًا عن الحياة في أمريكا (Reality show) وبما أن الأبطال هم ثلاثة شخصيات من خلفيات مختلفة فإن الأدوات السردية التي كانت بحوذة كتاب القصة كانت غير محدودة تقريبًا. ما يدفع كل هذه التجارب إلى الأمام دفعًا، هو استغلال التجربة السمعية أيضًا في خلق عالم افتراضي حي، يسهل تصديقه والانغماس فيه.

يمكنني أن أمضي ساعات وساعات للحديث عن محطات الراديو في ألعاب GTA ودورها الفعال والمؤثر في بناء العالم ووضع أساساته، وإقناعك بكل ما يدور فيه من أحداث. سواء عن طريق برامج الإذاعة الحوارية (Talk Shows) التي يتحدث فيها الضيوف بمختلف خلفياتهم الاجتماعية والثقافية عن أمور تهم المواطن الأمريكي. سواءً كنت مهتم بها أو غير مهتم، يمكنك معرفة الكثير عن العالم الذي تدور فيه الأحداث من خلال هذه الحوارات. في الجزء الرابع مثلًا كان هناك حديث مكثف عن العنصرية ضد العرب والأفارقة بسبب “أحداث سبتمبر” والتي تعتبر أمورًا واقعية قد تهتم بالسماع عنها حتى خارج نطاق الألعاب.

توظيف التجربة السمعية , Audio Experience

Cyberpunk 2077

يحتوي عالم Cyberpunk 2077 على الكثير من الأسرار والتفاصيل المثيرة للاهتمام، وهو واحد من أغنى العوالم الافتراضية في تاريخ صناعة الألعاب. ذلك لأنه مبني على اللعبة اللوحية (تحمل اسم Cyberpunk) من إنتاج عام 1988 ومن كتابة Mike Pondsmith.

تتمتع لعبة Cyberpunk 2077 بأسلوب سردي مباشر يعتمد على الحوارات بين الشخصيات، ولكن لا مانع من إثراء العالم بالتفاصيل الجانبية الغزيرة والتي تساهم في رسم صورة تعتمد على خيال المتلقي لتخيلها. في Cyberpunk 2077 هناك برنامج راديو أيضًا على غرار GTA من تقديم كاتب اللعبة الأصلي Mike Pondsmith تحت اسم The Voice of Night City، والذي يخرج للناس للحديث عن نظريات المؤامرة وأخر تطورات الصراعات الدائرة بين الشركات الكبرى. يعتبر هذا البرنامج برنامجًا سياسيًا إلى حد كبير، ولكن يا صديقي هذه ليست مجرد منصة لانتقاد السلطة، لأنه لا يوجد سلطة فعلية في مدينة Night City.

https://www.youtube.com/watch?v=3J8I0Ttx7OQ&ab_channel=Kazuliski

أتذكر في أحد المرات يحكي Mike عن فترة انتشار مرض أسماه سكان المدينة “طاعون الكاربون” أو Carbon Plague، والذي نتج عن تسرب مادة كيماوية ما كانت -على ما يبدو- تستخدم في صنع سلاح كيماوي، بعد حادث تعرضت له عربة نقل طائرة، وتم التكتم عليه من قبل الشرطة. يقول أيضًا بأن 600 فردًا لقوا حتفهم نتيجة لتأثير تلك المادة السامة، ونتج عن ذلك الكثير من الأطفال الأيتام. أقيم ملجأ خاص لهؤلاء الأطفال الأيتام، وتمت متابعتهم عن كثب ليتم الكشف عن اكتسابهم لقدرات خاصة مثل قراءة العقول! هل هو بسبب ذلك الحادث؟ هل بالفعل امتلكوا تلك القدرات أصلًا؟ لا نعرف أي شيء عن حقيقة الأمر، ولربما لا تريدك اللعبة أن تعرف الحقيقة بشكل يقيني، وإنما أن تدفعك لطرح الأسئلة والبحث أكثر. عند البحث أكثر ستجد المزيد من المعلومات عن تلك الأحداث التي جرت في 2020 (حسب تواريخ اللعبة) وهي على الرغم من كونها أحداث لم ولن تراها أمامك على الشاشة من خلال اللعبة نفسها، ولكن الحديث عنها والبحث في تفاصيلها يعطيك صورة حية عنها. الأمر أشبه بأن يحكي لك صديقك عن مغامراته المثيرة. أعتبر Cyberpunk 2077 أحد أكثر الألعاب التي اعتمدت على برامج الراديو لإثراء القصة، ونجحت في ذلك ببراعة جعلتني أحب أن أركن سيارتي وأستمع للراديو في الكثير من الأحيان.

Bioshock Infinite

خلال أحداث Bioshock Infinite ستعثر على مذكرات صوتية لكل شخصيات اللعبة تقريبًا تشرح لك بعض الأحداث من وجهة نظرهم، وتفسر لك الكثير سواء كانت دوافعهم أو قصصهم الخلفية. بدون هذه الأشرطة الصوتية ستجد صعوبة شديدة في الارتباط بالقصة والشعور بما يمر به الشخصيات.

توظيف التجربة السمعية , Audio Experience

Resident Evil Village

توظيف التجربة السمعية لا يشترط أن يكون فقط من خلال برامج الراديو! Resident Evil 8 Village تقدم مستويات جديدة من الاعتماد على التجربة السمعية وتوظيفها لتكون اللعبة أكثر رعبًا. في RE8، كل الأصوات مرعبة. يعود ذلك لاستخدام تقنية ال3D Audio بالطبع ولكن جودة تلك الأصوات التي تم تسجيلها تلعب دورًا أساسيًا. أصوات خطوات الأعداء من حولك، أصوات الهواء المتسرب من فتحات التهوية الصغيرة، والتي تخبرك عن استحياء بأنك قريب من المخرج، أو أصوات الوحوش المنتشريين بالقرية، والذين يجعلون من لحظات التجول فيها لحظات مرعبة للغاية.

توظيف التجربة السمعية , Audio Experience

في النهاية، الأداة السردية التي يغفل عنها الكثيرون هي “التجربة السمعية” التي يمكنها أن تكون عنصرًا فعالًا في زيادة حيوية العالم وإمكانية تصديقه والانغماس فيه. لقد أصبحنا في عصر يتم فيه صنع العوالم الافتراضية بشكل متقن للغاية، وها نحن مقبلون على الميتافيرس الذي سيجعلنا نخطو بأنفسنا داخل عوالم افتراضية أخرى. أردت أن أكتب اليوم هذا المقال لكي نزيد الوعي بأهمية التجربة السمعية، في سرد وتجسيد التفاصيل غير المرئية في خيالات المتلقين.

Mostafa Argoun

رئيس التحرير ومدير المحتوى بالموقع،أحب ألعاب الفيديو منذ زمن بعيد، وأول لعبة قمت بتجربتها كانت لعبة فيلم هرقل (Hercules) علي الحاسب الشخصي. أحب ألعاب الRPG وخصوصًأ التي تهتم بالقصة وتفرعاتها، ولا مانع من ألعاب اللعب الجماعي التي تقدم شيئًا جديدًا، وتحترم وقت اللاعبين. أعمل في صحافة الألعاب منذ عام 2012 وأحب الكتابة كهواية جانبية.
زر الذهاب إلى الأعلى