مقالات

سلسلة مقالات تحف منسية (الجزء الثاني) : Silent Hill 2

يعلم الجميع مدى روعة سلسلة Silent Hill كلعبة فيديو، وكعمل مهم في مجال الرعب النفسي، إذ رسخت فكرة الرعب النفسي في الألعاب بشكل لم يكن موجودًا قبلها. اقتصرت الألعاب المُرعبة في التسعينيات على الرعب البصري، أو تقديم تجربة بصرية تثير بداخلك الريبة وربما الإحساس بالاشمئزاز من أعدائك، بجانب الاعتماد على المفاجآت (الخضات) بشكل مبالغ فيه في بعض الأحيان. لقد جاءت لعبة Silent Hill 2 لتجعل من الرعب بيئةً خصبة لما هو أفضل، وأعمق من مجرد وحوش قبيحة!

في سلسلة “تحف منسية” نتطرق للألعاب التي أثرت في صناعة الألعاب، وقدمت معايير جديدة لنوع معين من الألعاب، أو رفعت سقف التوقعات وزادت من شعبية نوع آخر من الألعاب. تحدثت سابقًا عن لعبة Bully وها نحن اليوم بصدد الحديث عن Silent Hill 2، ملهمة ألعاب الرعب الحديثة!

أولًا: كيف تقدم القصة نفسها؟

تقدم قصة Silent Hill 2 نفسها بطريقة مميزة مقارنة ببقية ألعاب الرعب الصادرة في وقتها. يتلقى البطل مكالمة من زوجته المتوفاه تطلب منه الاتجاه إلى مكان مقابلتهما الأولى، وهي مدينة Silent Hill التي سرعان ما تتحول إلى أسوأ كوابيس البطل Harry Mason وهو الذي طاوع ذلك الصوت المألوف أملًا في أن يجد نفسه أمام زوجته، ويكتشف بأنه كان يعيش كابوسًا طيلة الفترة التي ظن فيها أنها قد ماتت بالفعل.

لا تخبرك القصة المزيد عن اللغز الذي تضعك أمامه، عوضًا عن ذلك تتركك تستكشف البيئة من حولك باحثًا عن الأجوبة لأسئلتك، وجامعًا لقطع تلك الأحجية الضخمة التي تتشكل أمامك. قانون واحد يحكم كل شيء في اللعبة: أن هناك أسباب لكل ما تراه أمامك. ما هي، وكيف ومتى وأين هي الأسئلة التي تطلقك اللعبة في عالمها للبحث عن إجابات لها، معتمدة في ذلك على عنصري السرد التلقيدي، والسرد البيئي.

السرد التقليدي هو الاعتماد على المقاطع السينيمائية في بلورة الأحداث الجارية أمامك على الشاشة، وتتضمن هذه المشاهد -بطبيعة الحال- حوارات بين الشخصيات المختلفة، أما أسلوب السرد البيئي فهو أسلوب أعتبره حكرًا على ألعاب الفيديو تقدم فيه ما تتفوق به على السرد السينيمائي. والذي وعلى الأرجح سأكتب عنه مقالًا في القريب العاجل. ولكن اختصارًا للوقت دعني أوضح لك أن هذا المصطلح (السرد البيئي) ليس من اختراعي وإنما هي كلمة يستخدمها الكثير من الإعلاميين عند وصف طريقة معينة في السرد القصصي في الألعاب، وقد أصبحت أحد المصطلحات الدارجة عند الحديث عن الألعاب.

تتلخص فكرة السرد البيئي في أن تكون البيئة من حولك عنصر مهم من عناصر القصة، يخولك البحث من خلالها على إيجاد أجوبة لأسئلتك حول القصة التي تجري. سواء كانت تلك الأجوبة مكتوبة في وثائق تقوم بجمعها أثناء التجول (مثال: لعبة Control)، أو تسجيلات صوتية كتلك التي في لعبة Bioshock Infinite. ليس ذلك فحسب، بل أن السرد البيئي يمتد ليكون مدى تعبير البيئة عن وضع العالم الذي أنت بداخله. أحد أفضل الأمثلة التي أجدها معبرة عن هذه الحالة هي لعبة The Last of us الأولى، التي على الرغم من كونها لعبة خطية في المقام الأول، ولكنها تقدم تصميمات بيئية معبرة بشكل غير مسبوق عن ما يحدث في العالم من حولك. عند الدخول لأي مكان ستجد من حولك أثارًا في كل مكان للشكل التي كانت عليه الحياة قبل حدوث فاجعة انتشار الفيروس الذي يحول البشر إلى مخلوقات زومبي. هذا الشعور بقسوة وقماءة العالم من حولك والذي يزداد بداخلك كلما استكشفت عالم اللعبة يعتبر لب فكرة السرد البيئي. عوضًا عن وجود شخصية تحدثك بشكل نظري عن مآسي عالم اللعبة الافتراضي، تتبع الألعاب حاليًا طريقة Show do not tell.

Silent Hill 2

تعتبر Silent Hill 2 من أوائل الألعاب التي نجحت في ذلك، حيث تضع أمامك الكثير من العناصر التي لا معنى لها في ظاهرها، ولكن مع الوصول لنهاية اللعبة ستجد بأن لا شيء فعلًا “بلا معنى” وإنما لم تحصّل أنت المعلومات اللازمة لتفسيره. وهنا تظهر فكرة تغفل عنها أغلبية ألعاب الرعب في الوقت الحالي، وهي الاستناد على قصة وعالم مكتوبين بعناية. إذا وصلت إلى نهاية لعبة رعب ولم يتم تفسير ما يحدث لي بشكل مقنع، أشعر بأن عنصرًا كبيرًا قد نقص من تجربتي، وبالتالي ينتقص ذلك أيضًا من متعتي وتقديري لعالم اللعبة.

Silent Hill 2

ثانيًا: أسلوب اللعب في Silent Hill بات المرجع الذي يلجأ إليه مطورو ألعاب الرعب حتى يومنا هذا

يمكنك اعتبار Silent Hill هي المؤسس الفعلي لكل ما تقدمه ألعاب الرعب العظيمة منذ ذلك الوقت. ما هي أفضل لعبة رعب جربتها؟ هل هي Resident Evill 7؟ أم The Evil Within بجزئيها؟ حسنًا، يمكنني أن أخبرك بأن Silent Hill 2 مهدت الطريق لمثل هذه العناوين العظيمة. دعني أفسر لك أقوالي.

اعتمدت Silent Hill 2 في أسلوب اللعب خاصتها على ثلاثة عناصر لا رابع لهم، وهم:
1- التجول والاستكشاف، والذي يكون عادة في بيئات صغيرة ضيقة ومظلمة، وبالتالي يعطيك شعورًا دائمًا بالخوف حتى لو لم يكن هناك داع لذلك الخوف.
2-عناصر البقاء على قيد الحياة وإدارة الموارد والتي تضعك بشكل مستمر تحت ضغط لأن الأخطار التي تواجهها دائمًا أقوى من إمكانياتك، متمثلة في الأسلحة والذخائر التي معك.
3- الألغاز التي تمثل Down Time أو وقتًا هادئًا تقضيه بعيدًا عن أجواء الرعب قليلًا، وفي حالة مختلفة من التفكير ومحاولة حل اللغز بكل الطرق الممكنة لكي تستطيع إكمال اللعبة.

Silent Hill 2

هذه تقريبًا هي العناصر الثلاثة التي تقدمها جميع ألعاب الرعب الحديثة، وحتى أفضلها. لقد استطاعت Silent Hill 2 تقديم تلك العناصر بشكل متقن ومتماسك، كلها تتماشى مع أحداث القصة وخلفيتها الواقعية، كما أنها تقدم حلقة جيم بلاي (Gameplay loop) لا تصيبك بالملل أبدًا.

المعاني الخفية للقصة العظيمة: نصيحة بسيطة بأسلوب ملتوٍ! (تحتوي هذه الفقرة على حرق لأحداث اللعبة)

تصل إلى نهاية اللعبة لتعرف بأن البطل (هاري) كان رجلًا سكيرًا يمارس العنف الأسري على زوجته، وقام بقتلها في أحد المرات نتيجة لضربها المبرح وهو تحت تاثير الكحوليات. وهنا تتبع اللعبة أسلوب الإشارات بالرموز إلى الأحداث، فالمكان الذي تذهب إليه هو أول مكان يلتقي فيه البطل مع زوجته وضحيته. أكثر الأماكن تذكيرًا بها إن صح التعبير. أما عدوك الأكثر فتكًا في اللعبة Pyramid Head فهو تجسيد مرئي لشعور البطل بالذنب، الذي يكاد يقتله في كل مرة.

Silent Hill 2

أعداؤك المتشكلون على هيئة ممرضات قبيحات الوجه، هن تجسيد للصورة النمطية التي اكتسبها البطل مع الوقت للنساء، والتي تسببت له بمشاكل مع زوجته، وبالتالي اتجاهه لإدمان شرب الكحوليات. يكفي أن أخبرك بأن في بداية اللعبة يكون البطل على يقين بأن زوجته توفت في حادث أليم، لكي يكتشف مع نهاية الأحداث أنه هو من قتلها وأنه يعيش حالة من الإنكار التام منذ ذلك الوقت، هي السبب في كل شيء حدث من البداية للنهاية.

Silent Hill 2

إذا، مفهوم الرعب النفسي، والخوص في سيكولوجية المريض النفسي وبناء لعبة رعب ذات قصة متماسكة عليها. هذا الشيء الذي يعتبر إنجاز Silent Hill 2 الأكبر، تدشين نوع جديد من ألعاب الرعب، وهو الرعب النفسي القائم على تصدير حالة الخوف بجرعات مستمرة وصغيرة، لتبني عندك شعورًا أقوى بالخوف الفعال، عوضًا عن “رعب الخضات” الذي كان الاتجاه الشائع وقت إصدار اللعبة.

Silent Hill 2

يمكنك اعتبار رسالة اللعبة في النهاية أن “شرب الكحوليات سيدمر حياتك” أو أن “كل الأشياء المخيفة من حولك ما هي إلا إسقاطات لخيالك على الواقع” وأن الخوف شعور يولد من الداخل في واقع الأمر. كل هذه الأمور هي بالفعل ضمن ما تحاول اللعبة إخبارك به، وتتبع أعتى أساليب السرد وأكثرها التواءً لتصل بك إلى هذه الاستنتاجات، ولكن أكثر ما يميز لعبة Silent Hill 2 ليست الفكرة النهائية التي تصلك من التجربة، وإنما يكمن الكنز في الرحلة. ربما لم يقصد صناع اللعبة كل هذه المقاصد المزعومة، ولكن دعنا نستمتع بحرية الرأي والتعبير التي تضمنها لنا الألعاب، لأن في النهاية تجربة كل لاعب ستختلف عن الآخر، حسب تجاربة الحياتية ومفاهيمه.

Silent Hill 2

هكذا كانت لعبة Silent Hill 2، لعبة سباقة إلى الإبداع، وواحدة من تلك العناوين التي أحب أن أطلق عليها مصطلح (Timeless Masterpiece) أو تحفة خالدة بأفكارها. لن تشعر أنها قديمة مهما مر عليها من سنوات. وبهذا تكون قد انتهت مقالتنا الثانية من سلسلة “تحف منسية” ودعنا نستغل هذه الفرصة لنتمنى إصدار أجزاء جديدة من هذه السلسلة العظيمة.

لقراءة الجزء الأول:

Mostafa Argoun

رئيس التحرير ومدير المحتوى بالموقع،أحب ألعاب الفيديو منذ زمن بعيد، وأول لعبة قمت بتجربتها كانت لعبة فيلم هرقل (Hercules) علي الحاسب الشخصي. أحب ألعاب الRPG وخصوصًأ التي تهتم بالقصة وتفرعاتها، ولا مانع من ألعاب اللعب الجماعي التي تقدم شيئًا جديدًا، وتحترم وقت اللاعبين. أعمل في صحافة الألعاب منذ عام 2012 وأحب الكتابة كهواية جانبية.
زر الذهاب إلى الأعلى