المشهد الأول: يوم عادي في حياة المواطن الروسي عام 1997، يعرض التلفاز أخبارًا تقليدية عن حالة الطقس، وفجأة يظهر آخر زعماء الاتحاد السوفيتي المتفكك قبل ذلك التاريخ بسبعة سنوات ميخائيل جورباتشوف (Mikhail Gorbachevian) في إعلان لمطعم Pizza Hut الذي يمثل أيقونة للرأسمالية، ليعتبره البعض يوم القضاء على الاشتراكية، وإعلان رسمي بهيمنة الرأسمالية على كل بقعة على كوكب الأرض. يظهر في الإعلان ميخائيل جورباتشوف ويختلف الحضور في وصفه، لينعته احدهم بأنه ذلك الزعيم المهزوم، ويرد عليه آخر بأن لولاه لما حصل الروس على بيتزا هت، وينتهي الإعلان بجورباتشوف يشير بيده للطفل الذي بصحبته أن يبدأ يتناول البيتزا، في إشارة -قد تكون غير مقصودة- بكونه الزعيم الذي قدم الرأسمالية على طبق من ذهب لأبناء جيل الشباب وقتها. (شاهد الإعلان من هنا)
المشهد الثاني: سقط الاتحاد السوفيتي، وأصبح السوق الروسي حرًا من جميع القيود الشديدة التي فرضتها السلطات آنذاك، هناك من يفكر في كيفية اقتناص الفرص في شتى المجالات. هناك الكثير من المنتجات الغربية التي إذا جاءت إلى السوق الروسي سيأكلها الناس أكلًا ويشترونها عن بكرة أبيها، ومنها بالطبع منصات الألعاب. لقد رأى شخصًا ما هذه الفرصة وكانت من هنا كانت بداية منصة الألعاب الأنجح في تاريخ روسيا، Dendy، فما قصة هذه المنصة وأين هي الآن؟ هذا هو موضوع مقالنا لليوم. فلنبدأ القصة من أولها!
العقل المدبر لكل هذا: Victor Savyuk
في عام 1992 يتعرف رجل المبيعات الروسي Victor Savyuk لسبب ما على منصة ألعاب NES من Nintendo، وفي ذلك الوقت كانت قد بدأت سوق كبيرة لبيع منصات الألعاب المزورة في تايوان تحت مسميات مختلفة، اقترح فيكتور شراء تلك المنصات من تايوان، وبيعها في السوق الروسية واستغلال تعطش سكان تلك البقعة من الأرض، والبالغ عددهم في ذلك الوقت حوالي 150 مليون نسمة للمنتجات الغربية التي تمثل لهم الرخاء والرفاهية التي سمعوا عنها كثيرًا، واتجه بالفعل Victor Savyuk لكبرى شركات الإلكترونيات في روسيا ليقترح عليهم الأمر، لكن لم يتحمس الكثيرون لها حتى وصل فيكتور على أعتاب شركة ناشئة تدعى Steepler يقف خلفها مجموعة من الشباب الطموح، من خريجي كلية الحاسبات والمعلومات (Computer Science)، والتي كانت قد بدأت بالفعل طريقها نحو المجد وقتها، عن طريق التعاون مع الحكومة الروسية لإنشاء أنظمة إلكترونية للبنوك، ونسختهم الخاصة من Windows، وكانت هذه الفرصة المثالية للانقضاض على الفرصة التي قد تجعل جميع أطرافها مليونيرات بين ليلة وضحاها!
البداية الفعلية لمنصة الألعاب Dendy
وقت اتخاذ القرار بالبدء في شراء منصات الألعاب المزورة تلك من تايوان وبيعها في روسيا كانت أنظمة 8-Bit على في أواخر أيامها، ولذلك فإن العتاد الخاص بها كان يباع بأسعار منخفضة تمكن التجار في تايوان من بيع منصات الألعاب خاصتهم بسعر 13 دولار فقط. بعد بالفعل تم تعين Victor Savyuk في شركة Steepler في منصب المشرف على ذلك المشروع، وتواصل هو مع شركات تايوانية عديدة حتى قبلت شركة TXC عرضه، ووافقت على تصدير منصتها (MicroGenuis) وهي منصة شبيه بمنصة NES لروسيا.
بالطبع حققت المنصة نجاحًا كبيرًا جعل Steepler تفكر في تصنيع منصتهم الخاصة، وبالفعل بدأوا باستيراد القطع من تايوان عوضًا عن المنصة كاملةً، ومن ثم يقومون بتجميعها في روسيا وبيعها تحت اسم Dendy. كانت اول شحنة من المنصة Dendy تحتوي على 10 آلاف وحدة، وقد تم اختيار موسم الأعياد ليكون وقت طرح المنصة في السوق الروسي، مع الاهتمام بالدعاية بشكل مكثف لكي يقبل الناس على شراء Dendy، وقد حدث بالفعل. بيعت النسخ بسعر 80$ للوحدة الواحدة، وحققت المنصة مبيعات تقدر بمليون روبل في أول ليلة فقط!
كيف كانت الدعايا المكثفة لمنصة Dendy؟
لا تنجح المنتجات في عالم الرأسمالية سوى بمصاحبتها الدعاية المُكثفة، والمُبدعة. لقد علم صناع القرار في شركة Steepler هذا جيدًا، وابتكروا كل الطرق الممكنة للدعاية لمنتجهم، منها التعاقد مع مذيع روسي محبوب بين أوساط الشباب والمراهقين يُدعى Sergi Suponev، لتقديم برنامج تحت اسم DENDY A NEW REALITY، يتحدث فيه عن روعة الجهاز والألعاب بشكل عام، ويقوم بتجربة الألعاب على جهاز Dendy وإظهار مدى انبهاره بها، ليزرع في عقول الشباب رغبة جامحة في الاحتذاء به، واقتناء جهاز Dendy.
هل تتذكرون قيام شركة Steepler بالعمل على مشروعات مع الحكومة الروسية ومنها تصميم النظم البنكية الإلكترونية (أشرت لذلك في الأعلى)؟ لقد حظيت الشركة بنفوذ كبير في الأوساط الحكومية بسبب عملهم مع الحكومة على أكثر من مشروع في ذلك الوقت، وقد استطاعوا استغلال ذلك النفوذ لإذاعة برنامجهم ذلك على القناة الروسية الحكومية، والتي كانت القناة التلفزيونية الوحيدة وقتها. ليس ذلك فحسب، بل أن توقيت عرض البرنامج نفسه كان توقيتًا مثاليًا في وقت ذروة تصارعت عليه البرامج الأخرى آنذاك.
لم تكتفي الشركة بذلك فقط، بل عملت على مجلة مصورة تحت اسم Video ACC dendy لاستعراض جديد عالم الألعاب، و”تثقيف” المتابعين في مجال الألعاب، والأجهزة، وبالطبع تم وضع جهاز الشركة والذي تحمل المجلة اسمه في المقدمة كونه الجهاز الأفضل لمن يريد أن يغدو لاعبًا في أسرع وقت.
لم يقتصر الأمر على ذلك، ففي خضم تحقيق الأرباح اللانهائية من وراء هذا الجهاز اكتشف مهندسي شركة Steepler أن الشركات التيوانية تصدر لهم نسخ قديمة من عتاد الجهاز. استغلت العقول المدبرة في الشركة هذا المشهد واستمرت في استيراد القطع القديمة، بجانب العتاد الجديد، وباعت الأول تحت اسم Dendy Junior تحت مسمى دعائي يشير للجهاز كونه جهاز الألعاب الأرخص، وباعت العتاد الجديد في جهاز Dendy Classic الذي مثل المنصة المطورة آنذاك.
أي أن فكرة توفير جهاز ألعاب اقتصادي مثل Xbox Series S ليست من ابتداع مايكروسوفت، وإنما من ابتكار عباقرة التسويق في شركة Steepler الروسية. لقد حقق جهاز Dendy Junior مبيعات كبيرة بالفعل فاقت توقعات الشركة، وأصبح جهاز الألعاب الأكثر انتشارًا في روسيا كلها.
كيف تصرفت Nintendo عندما عرفت بالأمر؟ دعوة على العشاء!
في مطلع عام 1994 كانت قد وصلت أرباح مبيعات جهاز Dendy إلى ما يقارب 75 مليون دولار، وكان قد ذاع صيت تلك المبيعات الناتجة في الأصل عن جهاز لا يقدم جديدًا، بل هو جهاز NES في حلة مختلفة صيتًا كان على الشركة الأم لجهاز NES) Nintendo) ألا تتجاهله، وفي يوم من أيام ذلك العام تواصل مسؤولو شركة Steepler العاملون بفرع الشركة في الولايات المتحدة ببطل قصتنا Victor Savyuk ليخطروه بأن مسؤولو شركة Nintendo قد دعوه للاجتماع معهم في الولايات المتحدة، بخصوص منتج شركتهم Dendy.
يومان من “المفاوضات” المستمرة، أثمر عن اتفاق، لا تقاضي فيه Nintendo شركة Steepler ولا تسعى فيه أن توقف ذلك المد الشرقي لشركة Steepler بمنتج هم يمتلكون كل الحق في التربح منه، بل قرروا أن تصبح شركة Steepler موزعًا معتمدًا لمنصتهم، مقابل شرط واحد فقط. ألا تساعد الشركة في دخول منصة Genesis المملوكة لمنافسهم الأكبر Sega للسوق الروسية. لقد أرادت Nintendo بشدة الدخول للسوق الروسي، لدرجة جعلتها تتجاهل ما فعله Victor Savyuk و أصدقاؤه، على الرغم من أن رفعهم لقضية في أي محكمة كان ليضمن لهم الفوز بها، والحصول على تعويض.
رحلة السقوط نحو الهاوية
سرعان ما تهاوى ذلك الاتفاق بين Steepler و Nintendo لأن الأخيرة فرضت شروطًا كان يراها الطرف الآخر تعجيزية، أولها هو بيع الجهاز بسعر السوق العالمية، وليس بسعر 80$ دولار كاملة، وهو ما قلل كثيرًا من أرباح الشركة، كما أن Sega كانت بالفعل قد بدأت في الدخول في السوق الروسية مع حلول عام 1995، وهو الشرط الوحيد الذي كان يدعم موقف شركة Steepler.
مع حلول العام 1996، كانت قد بدأت سوني فعليًا في بيع منصتها الحديثة آنذاك PlayStation في السوق الروسية، وبدأت مبيعاته في الازدياد جنبًا إلى جنب مع شعبيته الكبيرة، والألعاب الرائعة التي قدمها، وهو ما جعل جهاز Dendy في موقف صعب، لم يستطع الخروج منه.
في ذات العام -1996- أعلنت شركة Steepler إفلاسها، ولكن لم يتم إرجاع السبب إلى سقوط Dendy من على العرش كما قد يفكر البعض، ولكن أساس دخل الشركة بدأ في التضرر قبل ذلك بشهور، حيث بدأت حرب شنيعة من الحكومة على الشركة، المنظمات الحكومية التي حاربت الشركة كانت وزارة الاتصالات الروسية نفسها حسب كبار الموظفين في Steepler الذين صرحوا لاحقًا في تقارير عديدة أنهم تلقوا لتهديدات بالقتل، وتم الضغط عليهم بسحب معظم المشاريع الموكلة إليهم، من جهات حكومية أو غير حكومية على الأراضي الروسية، وبذلك أصبح وجودهم غير مرغوب فيه من قِبل الحكومة الروسية التي لا يمكن أن تسير الأمور بغير إرادتها في روسيا.
في 1998 تلعن الشركة نهائيًا عن إغلاق أبوابها، وبالتالي نهاية قصة صعود مثيرة للإعجاب، معها قصة نجاح Victor Savyuk في تحقيق أرباحًا بالملايين، من شيء هو لا يملكه أصلًا. لعلها واحدة من أكثر القصص إثارة في صناعة الألعاب، ولكنها أيضًا تعلمنا أنه لا يوجد ما يدعو بالفخر في سرقة مجهودات الآخرين، وأن الفشل حليف من يفعل ذلك حتى لو استغرق الوصول لهذه النتيجة وقتًا.
وصلت منصة Dendy إلى بلدان عديدة منها وطننا العربي نفسه، ولاتزال تباع Dendy وغيرها من المنصات المشابهة على مواقع للتجارة الإلكترونية، بأشكال وأحجام مختلفة تحاكي وتقلد جميع المنصات التي جاءت من قبلها، ومن بعدها على حد سواء.
كانت منصة Dendy نتاج الإنغلاق الذي حدث في روسيا لسنوات، ورؤية البعض لذلك الانفتاح الذي تلى سقوط الاتحاد السوفيتي فرصةً للتربح، ولكن الآن بات السوق الروسية واحد من أكبر أسواق صناعة الألعاب بشكل عام، إلا أنه لا يخلو من القرصنة بأي حال من الأحوال.