مقالات

هيديو كوجيما.. رحلة عرّاب ألعاب الفيديو من دراسة الاقتصاد إلى تصميم الألعاب

إن كنت شغوفًا بالألعاب، فحتمًا أنك سمعت باسم هيديو كوجيما من قبل. ذلك الاسم الرنان ذو الهيبة والذي يوحي بعبقرية فذة. لم تكن صناعة الألعاب عمومًا، ولا بعض المفاهيم خصوصًا لتكن كما هي الآن لولا كوجيما وأفكاره الثورية. صاحب أحد أعظم سلاسل الألعاب في التاريخ وهي سلسلة Metal Gear الثورية، كما أنه عُرف بحبكاته وتعقيداته المُلفتة للأنظار. ها نحن هنا اليوم لنتناول السيرة الذاتية لأعظم المبتكرين -إن لم يكن الأعظم- في تاريخ الصناعةِ كلها.

بداية فنية

وُلد هيديو كوجيما في الرابع والعشرين من أغسطس عام 1963 في حي سيتاغايا في مدينة طوكيو باليابان، ولكنه سرعان ما انتقل إلى مدينة أوساكا وقضى فيها مُعظم أيام صباه. وبالحديث عن أيام الصبا، كانت تلك الأيام والليالي مليئة بالأفلام والسينما؛ ففي كل يوم كانت تجتمع العائلة مساءً وتشاهد أحد الأفلام التي سرعان ما أثرت في كوجيما وانعكس ذلك على حياته فيما بعد، لدرجة جعلته يكتب في الوصف أو “البايو” الخاص به على تويتر أن 70 في المئة من جسده صُنع من الأفلام.

هيديو كوجيما

استمرارية التعرض لهذا الكم الضخم من المحتوى المرئي خلق بداخله مُخرجًا صغيرًا شغوفًا، وكان هذا هو هدفه في الحياة: أن يصبح مخرجًا سينمائيًا أو حتى يعمل في صناعة الأفلام ويصمم ويكتب قصصًا عنها. ذلك الاتجاه كان منافيًا للعقل في اليابان وقتها، والتي كانت مثلها مثل أي دولة متأخرة فكريًا وإبداعيًا. فإذا أردت أن تعيش حياةً كريمة هناك، عليك أن تلتحق بالسلك الوظيفي المرموق وتعيش حياةً روتينية بوظيفية مملة لم تكن لترض هيديو.

فاجعة كبرى في ريعان البلوغ

وبينما يحلم كوجيما بالسعي وراء حلمه في ربيعه الثالث عشر، تُوفي والده وترك العائلة في وضع مادي مأساوي. وهنا اضطر بطلنا أن يعتمد على نفسه لفترة من الزمان، وبالأخص خلال أيامه المدرسية والتي كان افتقد فيها والده بشدة وعرفنا فيما بعد أنه لم يكن مرتاحًا كلما انفرد بنفسه، ولهذا أُرغم على العيش في نطاق اجتماعي ليكسر عدم الراحة بداخله.

وبسبب وفاة والده، واقتناعه نوعًا ما بأن عليه أن يأخذ كل الخيارات في الحسبان، دخل كوجيما الجامعة ودرس الاقتصاد؛ مجال دراسيٌ لائق وقد يضمن له حياةً كريمة. ولكن شاب ترعرع وسط أسرة عاشقة للأفلام، كيف له أن يتخل عن حلمه بتلك السهولة وفوق هذا يدرس تخصص ليس له علاقة بالإخراج ولا بالتصميم؟

حب الصناعة

وبسبب حبه الشديد لما هو مؤمن به، أراد كوجيما أن يتخذ خطوات فعلية تجاه تحقيق حلمه. بدأ هيديو بالكتابة، وبالتحديد كتابة القصص القصيرة وأخذ يُرسل كتاباته إلى مجلات ودور نشر لكي ترى النور، ولكن خيال كوجيما الفيّاض وعشقه للكتابة كانا الحائل بينه وبين خروج تلك القصص للعامة؛ فكان صاحبنا يكتب قصصًا قصيرة تزيد عن الأربعمائة صفحة، ودور النشر والمجلات تُريد 100 صفحة فقط. شغف لا حدود له وتفاني لا يصدقه عقل.

عَرِف الجميع بحب كوجيما للأفلام، وبدأ صاحبنا يصور أفلامًا قصيرة مع صديقه بكاميرا 8 مم، وأثناء فترته الجامعية، كان هيديو يقضي أوقاتًا طويلة في الكتابة وفي الشيء الذي سيجد فيه شغفه الحقيقي في النهاية: ألعاب الفيديو. فبعدما رفضت المجلات قصص كوجيما “القصيرة”، اتجه الشاب إلى قضاء جُل وقت فراغه في ألعاب الفيديو وكان يقضى الليل مع عناوينه الخاصة وجهاز النينتندو فاميكوم خاصته. وعلى الرغم من نصح أصدقاءه له بالابتعاد عن ذلك المجال مجهول المستقبل، إلا أنه تعنت وأصر على تحقيق حلمه الحقيقي، وما أجمل هذا التعنت!

وَلع هيديو بمجال ألعاب الفيديو لم يكن كلامًا فارغًا بلا أفعال، بل كان بطلنا صادقًا لدرجة جعلته يترك مجال دراسته -الاقتصاد- في السنة الأخيرة من الجامعة؛ فبعد أن كان على مقربة من التخرج، قرر أن يترك كل شيء؛ ترك الاقتصاد، والإخراج، والرسم وأخبر أصدقاءه أنه متأكدٌ من إيجاد ضالته أخيرًا.

لم يسانده أصدقاؤه وعارضوه بشدة قائلين له أنه يدمر مستقبله بيده، ولكنه لم يأبه لأي من هذا الهراء وطارد حلمه بمساعدة الشخص الوحيد الذي وقف بجانبه، ألا وهي أمُهُ.

بداية هيديو كوجيما الفعلية

وبعد محاولات عديدة، أخيرًا، وُظِف كوجيما بشركة كونامي اليابانية العملاقة عام 1986، وبالتحديد في قسم حواسيب الـ MSX، والمشهورة في العالم العربية “بالكمبيوتر الصخر”. مشكلة هذا القسم أنه لم يسع خيال كوجيما الواسع ولا طموحاته التي تلامس السماء.

بسبب جهله الشديد بالبرمجة، شارك هيديو كوجيما في الألعاب بأفكاره فقط، ولا تستهن بذلك الدور يا صديقي؛ فكوجيما مبتكر ومخرج للألعاب وهذا يعني أنه مسؤول عن كل شيء فيها حرفيًا عدا الأمور التقنية.

أول لُعبة شارك فيها كوجيما كانت الجزء الثاني من Penguin Adventure، والذي حمل اسم Antarctic Adventure. كانت لمسته ملحوظه وتأثيره الواضح جعل أضاف كثيرًا في عالم الألعاب؛ عناصر RPG جديدة، وتحسين نظام الأكشن، والأهم من ذلك هو وضع أكثر من نهاية للعبة وهذه اللعبة كانت من أوائل الألعاب التي تمتلك هذه المزية.

Metal Gear

هل تعلم عزيزي القارئ أن أحد أفضل سلاسل الألعاب في التاريخ، وهي Metal Gear، كانت على وشك الإلغاء؟ لم نكن لنرى تلك السلسلة لولا العبقري كوجيما والذي قدم لنا من خلالها متعة وأفكار لا توصف في عالم الألعاب، وإذا أردت أن تدرس عقلية الرجل وتعرف كيف يفكر، فما عليك إلا أن تجرب السلسلة، وصدقني، لن تعرف شيئًا، ولن يزيدك الأمر إلا ارتباكًا.

فرصة كوجيما جاءت عندما سمع باسم اللعبة على أنها مشروع كونامي القادم والتي قررت جعله المخرج الأساسي لها. ابتسم الحظ لكوجيما أخيرًا وأحس أن فرصته الحقيقة جاءته على طبقٍ من فضة، وها هو ذا يستعد، ولكنه يفاجئ بقرار الشركة في التغاضي عن المشروع!

الجدير بالذكر أنه كان يعمل على لُعبة تُمسى Lost Warld -نعم، Warld وليس World-، ولكن الشركة ألغتها هي الأخرى، وهذا ما لم يسمح كوجيما بتكراره مع Metal Gear.

تبرير الشركة كان بأن أجهزتهم لم تكن قادرة على برمجة تلك اللعبة التي كان من المفترض أن تصبح كُلها أكشن، ودبابات، واشتباكات، وما إلى ذلك. كوجيما أصر وألح على الشركة أن تكمل اللعبة وأن لديه الحل السحري، وعندما سألته كونامي عن ذلك الحل، كان الجواب الذي تسبب في اختراع فئة ألعاب جديدة ألا وهي فئة الـ Stealth أو ألعاب التخفي إن صح التعبير.

اقترح هيديو كوجيما على الشركة أنه بدلًا من مواجهة الأعداء، يمكن للاعبين أن يتخفوا منهم ويباغتوهم، وبهذا يكون قد تجنب الاشتباكات المباشرة التي تتطلب عملًا برمجيًا مضنيًا. ولكن كعادة معظم الأفكار الجديدة، لم ترد الشركة أن تُخاطر وتنفذ فكرة كوجيما المجنونة معللةً ذلك بأن اللاعبين يريدون أن يحصلوا على جرعة من الحماس، والأكشن، وقتال الأعداء، لا أن يهربوا منهم!

هيديو كوجيما
Metal Gear .. MSX2

ألح كوجيما على مدراءه ولحسن الحظ أنهم وافقوا على طلبه بعدما شعروا أن قصة اللعبة مناسبة تمامًا لأسلوب اللعب الذي يريد أن يطبقه كوجيما، وبالفعل، صدرت اللعبة عام 1987 على جهاز ال MSX 2، ونحن نعلم الباقي!

امتدت السلسلة حتى عام 2015 وهو نفس العام الذي بدأت الخلافات فيه تشتد بين كوجيما وشركة كونامي والذي تركها بالنهاية وبدأ مشروعه الخاص.

نهاية.. بداية

هيديو كوجيما

بعدما ترك كونامي وحُرم من استلام جائزته في حفل The Game Awards عن جزء Phantom Pain بسبب تعنت كونامي، عاد بطل قصتنا في الشهر الأخير من 2015 وتعاون مع سوني وأصبح مطورًا مستقلًا معروفًا بالاستديو الخاص به Kojima Productions. عمل هيديو مع سوني على لعبة Death Stranding، وحصل على جوائز عديدة من أهمها جائزة “أيقونة الصناعة” عام 2016 في نفس الحفل الذي حُرم من حضوره في 2015.

هيديو كوجيما

مسيرة حافلة امتلأت بالنجاحات، ومقال واحد لن يسع عقل بإبداع كوجيما. ترك بصمته الخاصة على عالم الألعاب وأمدها بأفكار مزجت بين السينما التي تشبع بها في صغره بالإضافة إلى شغف مُستمر لن يُنسى أثره على الإطلاق.

Ahmed Safwat

أتساءل إلى أين ستصل بنا التقنية في المستقبل، وأنطلق من هذا التساؤل إلى محاولات بائسة، ولكن شغوفة، للبحث عن الجواب من خلال مشاركاتي عن الألعاب والتقنية.
زر الذهاب إلى الأعلى