هناك معضلة محيرة في أي صناعة ترفيهية، تتلخص في السؤال التالي: لماذا هناك أفلام/ ألعاب سيئة؟ فالمنطق يقول بأن لا أحد يريد إنتاج منتج لن يعجب الجماهير، ومسألة “ألذوق السئ” هي مسألة متعلقة بشخص أو مجموعة صغيرة من الأشخاص، لكن ماذا عن الاستوديوهات الكبيرة التي تكد وتعمل على قدم وساق لسنوات ثم تخرج ألعابها للنور ليتضح كونها لعبة سيئة؟
عند الاستماع للمطورين وهم يتحدثون عن ألعابهم تشعر بأن جميع المطورون يعرفون بشكل عام ما الذي يتوجب عليهم فعله لإخراج منتج رائع، ولكن عند تجربة الألعاب تجد بأن نسبة ليست بقليلة منهم يقدم مستوى متواضع، أفكار فقيرة وربما منتج ممل في النهاية.
لا، أنا لست هنا لأخبرك بأن الشركات أصبحت جشعة وأن الألعاب يتم إصدارها بغض النظر عن حالتها التقنية، ليس لأن هذا غير صحيح، ولكن لأنني أشرت إليه في مقالة كاملة مستقلة، لكن اليوم أنا هنا لأفكر معك يا صديقي في السبب الذي يجعل آلية لعب سيئة، أو عالم لعبة ممل يتم التغاضي عنه وشحن اللعبة للجماهير دون محاولة إصلاح الوضع.
أولًا: الشغف وحده ليس كافيًا
الشغف قادر على جعلك لاعب رائع، ولكن هل يستطيع حملك خلال مراحل التطوير؟ بالتأكيد لا، عليك أن تتحلى بالمهارات اللازمة، وهي ما يتخللها مهارات لا تسطيع كسبها عن طريق اللعب فقط.في بعض الأحيان يختلط الأمر على المطور ويظن بأن شغفه نحو نوع محدد من الألعاب قد يكون كافيًا ليجعله قادرًا على صنع لعبة ناجحة من ذلك النوع.
نجد ذلك عادة في الألعاب المستقلة التي عادة ما تبدأ كمشروع شغف وتتحول إلى مشروع جاد ،ولكن للأسف، الحقيقة ليست كذلك، فبجانب مهاراتك التقنية (تصميم مراحل – تصميم أصوات – كتابة قصة) سيكون عليك إدارة مواردك بحكمة واستغلالها بأقصى شكل ممكن في أوجه متعددة. إنها عملية معقدة يجتمع فيها الشغف بالإدارة الموارد والأزمات.
أحد الأمثلة على الألعاب التي نجحت كثيرًا في تقديم تجربة عظيمة رغم تطويرها بميزانية صغيرة واستوديو مستقل كانت Madison التي راجعناها مؤخرًا وكانت أحد مفاجآت السنة بالنسبة لي. لكن على النقيض تمامًا كانت لعبة مثل Biomutant التي صدرت في عام 2021 ولم تنل استحسانًا من النقاد. لقد كان شغف المطور بمثل هذه الألعاب جليًا ولكن التنفيذ لم يكن بالجودة الكافية.
ثانيًا: التجارب الأولى دائمًا ما تكون متعثرة
معضلة التجارب الاولى تنطبق على صناعة الألعاب مثلها مثل أي تجربة حياتية أخرى، هناك دائمًا هامش من الأخطاء لا بد من الوقوع فيه عندما يعمل مطور على لعبة لم يعمل على مثلها من قبل. حالة Fallout 76 هي الأقرب لذهني حاليًا، فحسب تصريحات المخرج Todd Howard فقد كانت تجربة تحويل Fallout بكل تركيزها على اللعب الفردي إلى لعبة جماعية تجربة جديدة على استوديوهات بيثيسدا (على الرغم من تقديم The Elder Scrolls Online قبلها!) وأنهم تعلموا منها.
هناك أيضًا أمثلة كثيرة على مساوئ التجربة الأولى، منها ألعاب استوديو Spiders المتأثرة بمدرسة Bioware لألعاب التقمص (RPG). لعبتهم الأخيرة Greedfall كانت رائعة وهي الأفضل من حيث المستوى، على الرغم من بعض العيوب الملحوظة في تجربتها لكن الوصول لهذا المستوى جاء بعد لعبتين متواضعين المستوى وهم Mars War Logs و Technomancer وهما جزئين من نفس السلسلة تدور أحداثهم في زمن مستقبلي يسكن فيه البشر مستعمرات المريخ، ويمكنك ملاحظة أن الكثير من الجهد والعمل قد تم لبناء تلك العوالم الافتراضية ببتفاصيلها (Lore) ومحاولة تقديم لعبة RPG عميقة ومختلفة ولكنها بشكل عام ألعاب مملة، بأنظمة معقدة أكثر من اللازم لا تقدم المتعة اللازمة لتجعلني أقضي معها الوقت الذي تتطلبه. هذا الشيء أسميه خلل في موازين المتعة.
أي أن الألعاب يجب ان تكون طويلة من حيث عدد الساعات فقط عندما تكون ممتعة، وإذا كان المطور غير قادر على تقديم تجربة يضمن استمتاع الجميع بها، فعليه أن يجعلها وجيزة. هذه الموازنة بين أكثر من عنصر قد تكون صعبة عندما يكون مشروعك الأول، ضف إلى ذلك جميع الأمور الإدارية، وتعرضك لأول مرة للتعامل مع مستثمرين مهمين، أو إدارتك لفريق يتجاوز تعداده الخمس أفراد لأول مرة. كل هذه الأشياء تجعل من عملية التطوير أصعب.
ثالثًا: الكثير من العمل النظري بدون تجربة
المشاريع الكبيرة عادة ما تجعل المطورين يتحمسون لها، وتجري الاجتماعات كثيرًا في البداية لمحاولة تحديد ماهية المشروع في الأساس. نوعه، وأفكاره الأساسية، والعناصر التي لا غنى عنها لتقديم الرؤية بالشكل المثالي. عادةً ما يقع بعض المطورين في فخ الأفكار الكثيرة، والتي يصعب تنفيذها جميعًا، وبالتالي عندما يأتي وقت التنفيذ إما أن يتم تنفيذ معظمها بشكل ضحل وممل، أو تنفيذ بعضها وإلقاء بعضها الآخر من النافذة، وهو ما حدث قطعًا مع Cyberpunk 2077 حيث تم وعد اللاعبين بقصة متفرعة تؤثر أصول شخصية البطل عليها، ولكن في النهاية حصلنا جميعًا على اختلافات ضحلة وقصة عامة مطابقة.
بجانب طور الأونلاين الذي لم يعد Cd Project Red يتحدث عنه أبدًا على الرغم من كونه في الخطة من البداية، ولكن طبعًا أدرك صناع القرار هناك بأن المشروع ربما كان طموحًا أكثر من اللازم، وأن الأفكار كلها لا يجب أن ترى النور من الجزء الأول، ربما الأجزاء القادمة من Cyberpunk ستكون أفضل؟
يقول المخرج Todd Howard بأن أهم شيء في عملية تطوير الألعاب هو سرعة بناء نسخ تجريبية يجربها المطورين ليعرفوا إذا كانت افكارهم التي تحمسوا لها وهي محض حبر على ورق ممتعة أم لا، ويقول بأن شعار استوديوهات بيثيسدا هو “الألعاب العظيمة تلعب ولا تصنع” لهذا السبب.
رابعًا: “اللعب على المضمون والخوف من المغامرة”
كثيرًا ما يكون هذا سبب تخبط تجربة لعب ما، الخوف من المخاطرة أو ضيق الوقت واقتباس عناصر من ألعاب ما، ولكن المشكلة تظهر اكثر عندما تصدر لعبة ما بعد سنوات طويلة من التطوير، فتكون بالتبعية بعض أفكارها مقتبسة من ألعاب نجحت وقت بداية تطوير اللعبة، وبالتالي أفكار قديمة بات اللاعبون يبغضونها، وهذا ما حدث مع فكرة العالم المفتوح في لعبة Mass Effect Andromeda، والتي صدرت في 2017 بأفكار عالم مفتوح ومحتوى متكرر يشعرك بأنك تلعب لعبة قديمة من ألعاب يوبي سوفت! يرجع ذلك لأن اللعبة بدأت تطويرها في 2012 وقتما كانت ألعاب يوبي سوفت “القديمة” هي الألعاب المسيطرة على الساحة، والأكثر تحقيقًا للنجاح.
الخوف من المخاطرة أيضًا يظهر في الأجزاء الجديدة من السلاسل الشهيرة، أبرزها لعبة Fifa الرياضية، أو ألعاب Far Cry و Assassin’s Creed مثلًا والتي تتبع نظام “اللي تكسب به إلعب به” من باب الحفاظ على رضى اللاعبين والأرباح مستقرة. وهو أمر مفهوم بالطبع لأن الصناعة تحكمها الأرباح والأموال، ولكن عند النظر للألعاب التي يتبع مطوريها هذه السياسية بحسن نية، نجد بأن الابتكار الحقيقي مكلف ويستغرق وقت للتجربة والتنفيذ التقني للأفكار الجديدة، وهو ما قد يكون صعب على الاستوديوهات محدودة الميزانية، أو الاستوديوهات الكبيرة التي تجرب لعبة جديدة (New IP) وغير مستعدة للمخاطرة بشكل كبير، مثل Square Enix مع لعبة Sleeping Dogs مثلًا.
خامسًا: عدم امتلاك رؤية واضحة أو امتلاك رؤية متعددة الأوجه
تقع الكثير من المشاريع الترفيهية من أفلام وألعاب في مصيدة التخبط في الرؤية، وأهم المشاريع التي أتذكرها عندما أتحدث بالموضوع هو فيلم Batman V Superman للمخرج زاك سنايدر، ولعبة Anthem للمطور Bioware. السبب وراء التخبط في ما تقدم من نبرة، وهو ما يجعل تلك المنتجات صعبة التقبل من مختلف الجماهير الموجه لهم التجربة.
لعبة Anthem مثلًا، بعيدًا عن كونها التجربة الأولى لاستوديو Bioware خارج منطقة راحته وهو ألعاب القصة، أعتقد أن في نقطة ما من مرحلة تطوير اللعبة فقد المطور رؤيته عن نوعية الجماهير التي تحاول اللعبة مخاطبتهم واستقطابهم. لأنها لعبة أكشن بمعارك ممتازة، وعالم واعد ولكن لا يتم استغلال ذلك كثيرًا، وقد تم الاعتماد على أن آليات اللعب ستبقي اللاعبين مستمتعين لفترة طويلة، ولدرجة تجعلهم يعيدون المهمات نفسها مرارًا وتكرارًا، وهو ما لم يكن صحيحًا بالطبع وأدى لانتقاد لاذع من محبي Bioware لأنهم توقعوا لعبة جماعية بلمسة الاستوديو المعهودة البارعة في تقديم قصص رائعة، وعوالم افتراضية جذابة، كما نالت اللعبة قسطًا كبيرًا من الانتقاد من محبي ألعاب الأونلاين ببساطة لأنها لعبة خالية من المحتوى، وبالتالي نقصان الرؤية منذ بداية عملية التطوير حتى نهايتها أفقد اللعبة شعبيتها في جميع القواعد الجماهيرية التي كانت تحاول اقتحامها، فلا استطاعت إرضاء أولائك أو هؤلاء!
أما عن فيلم Batman V Superman فقد عانى معاناة شديدة في الحفاظ على نبرة موحدة له. هناك مزحات شحيحة موزعة على عمر الفيلم الطويل الذي يمتد إلى 3 ساعات كاملة، ولكنه في المجمل فيلم مظلم بشكل غير مسبوق، وتخوض أحداثه وقتًا طويلًا في تناول الأبعاد النفسية للأبطال الخارقين على عكس جميع أفلام الأبطال الخارقين الأخرى التي تهتم بتقديم قصص سريعة الوتيرة بأحداث مثيرة والتواءات كثيرة بدون التركيز في تفاصيل صغيرة، فلهؤلاء الذين كانوا يبحثون عن فيلم أكشن قوي وممتع للمراهقين لم يجدوا ضالتهم بالفيلم، أما هؤلاء الذين يهتمون بالكثير من العمق والسينماتوغرافيا على الأرجح لن يبحثوا عنهما في فيلم لبطلين خارقين يرتديان أزياء غريبة…الحديث عن الفيلم قد يطول ولكن وجب ذكره هنا لتوضيح فكرة غياب الرؤية أو تخبطها للشكل النهائي الذي تريد منتجك أن يصبح عليه عندما يصبح جاهزًا.
كانت هذه هي الأسباب التي تجعل المطورين يتحدثون حول ألعابهم كأنها مشروع حياتهم الأسمى، تمتلئ عيناهم بالشغف وتشتعل أرواحهم بالسعادة، وتغرغر عيونهم بالدموع ثم يبكون بحرقة تاركينك مقتنع تمامًا بأن “أكيد اللعبة دي حلوة على كده!” لتكون المفاجأة عند الإصدار، لعبة لا يستطيع “إلا الجدعان” إنهاءها.
يبقى أحد أهم الأسباب لأن يصف البعض لعبة ما أنها مملة، وهو اختلاف الأذواق، ولكن هنا نحن نتحدث عن الألعاب التي يرى الجميع حتى كبار محبيها بأنها ليست بالجودة المطلوبة.
صناعة الألعاب هي صناعة حديثة نسبيًا، وبما أن نموها كبير في الفترة الأخيرة تجد أن الكثير ممن ينتمون إليها ويعملون بها هم من الهواة والمبتدئين، وهذا ليس أمر سيئ على الإطلاق وإنما شيء علينا وضعه في عين الاعتبار عند اختيار اللعبة التي سنشتريها تاليًا، ابحث جيدًا ولا تصدق الدعاية بشكل مطلق، ودائمًا لا تتحمس بشكل غير مشروط.