صدامات ثم تعديلات ثم فوضى، هكذا هي الحياة منذ استحواذ الملياردير الأميركي إيلون ماسك على منصة تويتر، إذ بدأ رحلته بطرد مسؤولين في قمة الهرم الإداري للشركة، ومن ثمّ شن حملة تسريح موظفين، قبل أن يقوم بإدخال تعديلات تسببت في حالة من الفوضى.
لم يكن تويتر جنة قبل أن يشتري ماسك الشركة بالتأكيد. لكن أفعاله المتهورة وقراراته الهوجاء الغير مدروسة، جعلت من منصة التواصل الاجتماعي الشهيرة جحيمًا لمستخدميها وصداعًا مؤرقًا للشركات وأصحاب الأعمال، وبدأ الخوف والقلق يتسرب لقلوب الجميع من مستقبل المنصة وفي نفس الوقت بدأت فكرة الهجرة والبحث عن بدائل وتقبل فكرة أن الأمور ستئول حتمًا للأسوأ لا محالة طالما أن ماسك يتربع على قمتها.
وصل جنون ماسك بالأمس إلى ذروته، الذي أعلن فرض قيودًا جديدة بشأن عدد التغريدات التي يمكن للمستخدم مشاهدتها في اليوم، لأول مرة، مُعلنًا الضرب بمبدأ تصفح التغريدات على تويتر بالحائط، ومُفسحًا المجال لمليارات المستخدمين بتحديد قرارهم بالبقاء وتحمل تلك الصعاب وتجربة الاستخدام التي يتم التضييق عليها يومًا بعد آخر أو الانتقال لمنصة أخرى تكفل للمستخدم العادي حرية التصفح بدون قيود.
فما الذي حدث بالتحديد؟ وما هو مبرر الملياردير الأمريكي؟ وما هو السبب الحقيقي وراء ذلك القرار الذي يمكن وصفه على الأقل بالانتحاري لتويتر؟ والأهم ما هي تبعاته وكيف يُمكن أن يُغير ذلك شكل مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة القادمة.
تغريدات محدودة وحالة من الفوضى في تويتر.. ماذا يفعل إيلون ماسك؟
تفاجأ زوار موقع تويتر بالأمس بعدم قدرتهم على رؤية التغريدات، وهي خطوة وصفها مالك المنصة إيلون ماسك بـ”الإجراء الطارئ والمؤقت”.
وكان بإمكان زوار الموقع في السابق عرض التغريدات ومشاهدتها دون الحاجة إلى تسجيل الدخول بحساباتهم على تويتر، ولكن المنصة اختارت تغيير هذه السياسة وفرض تسجيل الدخول على كل زائر حتى يتمكن من رؤية التغريدات.
كما سيتم مؤقتًا تقييد عدد التغريدات المعروضة، لكبح الاستخدام المكثّف الذي تقوم به أطراف ثالثة لبيانات الشبكة الاجتماعية، ولا سيما لتغذية نماذج الذكاء الاصطناعي.
وستحد المنصة عدد التغريدات التي يمكن للحسابات الموثّقة مشاهدتها بـ6000 يوميًا، و600 للحسابات غير الموثّقة، و300 للحسابات الجديدة غير الموثّقة.
وسيتم “قريبًا” رفع السقف إلى 8000 و800 و400 تغريدة على التوالي حسب نوع الحساب، بحسب الرئيس التنفيذي لمجلس إدارة المنصة.
ورفع ماسك لاحقًا العدد إلى 10 آلاف، إلى 1000 و500 تغريدة، في منشور جديد أضافه لتغريداته السابقة، والتي لاقت استهجانًا وانتقادات عنيفة من رواد المنصة الشهيرة.
وأوضح إيلون ماسك في تغريدة إضافية أن القرار هدفه “كبح المستويات القصوى من جمع البيانات والتلاعب بالنظام”. وهو كان قد أعلن في اليوم السابق أنه لن يكون من الممكن قراءة التغريدات، من دون ربط الاتصال وتقديم معرّفات.
وأضاف أن “مئات المنظمات (ربما أكثر) تجمع البيانات من تويتر بنسق شديد، لدرجة أنها عطلت الاستخدام العادي”.
ومن خلال الحد من عدد التغريدات التي يمكن قراءتها، يسعى ماسك إلى منع تلك المنظمات من جمع كميات هائلة من البيانات المستخدمة خصوصا لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية.
وعلى الشركات “تدريب” البرامج من خلال إعطائها أمثلة للمحادثات، لتطوير نموذج توليدي قادر على الاستجابة بطريقة تشبه الإنسان.
وكان ماسك قد عبر سابقًا عن استيائه من شركات الذكاء الاصطناعي مثل Open AI، صاحبة روبوت الدردشة ChatGPT، لاستخدامها بيانات تويتر في تدريب النماذج اللغوية الضخمة الخاصة بها.
وشدّد الملياردير الأميركي على أن “جميع الشركات التي تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي تقريبًا، من الشركات الناشئة إلى أكبر المجموعات في العالم، تجمع كميات كبيرة من البيانات”.
قال مالك الشركة إنه يرغب في الحد من ما وصفه بـ «إدمان تويتر»، إلا أن تقارير خارجية نقلت عن مصادر بالمؤسسة أن التقييد جاء بسبب «مشاكل متعلقة بالتكلفة».
وأوضحت المصادر أن الشركة وقعت عقدًا بقيمة مليار دولار مع جوجل للخوادم السحابية ولكنها لم تلتزم بالدفع، ثم أصبحت الخدمة أبطأ، وعانى المستخدمون من مشكلات عند التغريد ورفع الصور.
وذكرت المصادر أن الهدف من هذا التغيير هو توفير المصروفات، والذي قد يستمر لفترة طويلة.
وأشاروا أن الأحوال تبدلت بعد جائحة كورونا وفي ظل الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تراجعت الإعلانات ولم تعد شبكات التواصل قادرة على استهداف مستخدميها بالإعلانات كما كانت تفعل في الماضي القريب.
وعلى هذا، بدأت المنصات في إعادة حساباتها لخفض التكلفة والبحث عن مصادر للدخل تعتمد بالأساس على المستخدم.
يبدو من خلال هذه التغييرات إن زمن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بلا مقابل في طريقه للانتهاء، حيث كان الاستخدام بلا حدود عندما شهدت الإعلانات ازدهارًا كبيرًا، فما تبعات ذلك القرار على تويتر؟ وهل يكون قرار تقييد التغريدات المعروضة للمستخدمين هو المسمار الأخير في نعش المنصة التي جلب لها ماسك الخراب منذ أن خطا خطوته الأولى داخل الشركة؟!
انخفاض كبير في عدد المستخدمين
هل تخيلت يومًا أن تفتح التطبيق على هاتفك أو حاسبك وتُفاجأ بالإشعار الوارد في الصورة أعلاه؟ وأنك مضطر للانتظار حتى بداية اليوم التالي للتصفح مجددًا! في الحقيقة لم يتصور أحد أن ذلك سيحدث في يومٍ ما ولكن إيلون ماسك قام بتحويله إلى واقع والآن سيتعين على المستخدمين التعايش معه.
سيؤدي هذا القرار بما لا يدع مجالًا للشك بعزوف مئات الملايين من المستخدمين بعيدًا عن المنصة، سواء كان المستخدمين الحاليين أو الذين كانوا يطمحون إلى إنشاء حساب وبدء تجربتهم قريبًا. المستخدم هو الطرف الفائز دائمًا في أي معركة يكون طرفًا فيها. قد يكون ماسك مقتنعًا بأن هذا القرار قد يدفع البعض للرضوخ للتغييرات الجديدة والاشتراك في خدمة Twitter Blue من أجل رفع حد التغريدات اليومية، ولكن ما لا يعلمه أن المستخدم لا يُعامل تويتر كأنه حبيبته القديمة التي ما زال مُتعلقًا بها.
توجد أمام المستخدمين خيارات عديدة بالتأكيد ولن يقف الأمر على تويتر بأي شكل من الأشكال، بدأت الأخبار بالفعل تتزايد حول وفود مئات الآلاف من المستخدمين على منصة Truth Social المملوكة لدونالد ترامب ورحيلهم بشكل نهائي على تويتر، وبالتالي تُعد مصائب قوم عند قومٍ فوائدها حتى في عالم التواصل الاجتماعي.
لن يقتصر الأمر على المستخدمين العاديين فقط، بل وعلى جميع فئات الحسابات بالتأكيد من هيئات حكومية، لشخصيات عامة موثرة، لصُناع محتوى. الجميع من المتوقع أن يُغادر خلال الفترة القادمة إذا استمرت تلك القيود، وهو ما سيؤثر على المنصة بشكل جذري ستظهر تبعاته في المستقبل القريب.
عزوف متوقع لجميع المُعلنين وأصحاب الشركات والأعمال التجارية
ما الذي ينتظره إيلون ماسك بعد تطبيق هذه القيود؟ هل يتوقع ازدهارًا في أرباح الإعلانات؟ من المؤكد أن أغبى موظف في تويتر يعلم أن ذلك القرار سيؤثر بشكل جذري على أرباح المنصة من الإعلانات الممولة وما إلى خلافه، حيث يتم إنفاق مئات الملايين سنويًا على الإعلانات في المنصة بما أن لها شعبية جارفة وقاعدة مستخدمين تضم المليارات، فكيف سيتأثر ذلك بعد ذلك القرار الجدلي؟
قاعدة الإعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي بسيطة، ادفع مقابل أن يصل إعلانك لعدد أكبر من المستخدمين وكلما زاد المبلغ المدفوع، تزايدت الشريحة التي ترى الإعلان. من المؤكد أن هذا الوضع سيشهد تغييرًا بما أن الحسابات الغير موثقّة والمنبوذة من إيلون ماسك أصبح أقصى حد لها يوميًا هو 1000 تغريدة وهو رقم ليس بالضخم نظرًا لأن عملية التصفح أو السكرولينج ترتكز على قراءة عشرات التويتات في دقائق معدودة عبر تمرير الشاشة، أي يُمكن لأي مستخدم الوصول للحد الأقصى في ساعات قليلة وسيتعين عليه بعدها الانتظار حتى اليوم التالي للتصفح مجددًا.
يُمثّل هذا ضربة قاسمة للمعلنين الذي يطمحون لاستهداف أكبر عدد ممكن من المستخدمين في إعلاناتهم، فلا يوجد أي ضمان لهم أن إعلاناتهم المدفوعة ستنتشر بشكل فعال وتحقق هدف الحملة المنشود، بما أن هناك حد يومي مُقيّد مسموح به لكل حساب عادي، مما يطعن في مصداقية وجدوى الإعلان على تويتر، وهو ما سيدفع المعلنين خلال الفترة القادمة للتفكير في بدائل أخرى تضمن لهم وجود جمهور حقيقي بشكل دائم يتفاعل مع إعلاناتهم بدون قيود.
ضربة قوية لوسائل الإعلام والمؤثرين وصُناع المحتوى
كان تويتر كحجر الدومينو الذي كان يتخذ وضعية الوقوف الهش، وأتى قرار إيلون ماسك الأخير كالصاعقة التي دفعت المنصة الزرقاء إلى السقوط اللإرادي للهاوية، فبعد عزوف المستخدمين والمُعلنين، لا توجد ضرورة تقتضي لتواجد صناع المحتوى ووسائل الإعلام الرسمية والغير رسمية التي يرتكز الكثير منها بشكل أساسي على زُوار تويتر.
ما الذي يدفعك كصانع محتوى أو شخصية مؤثرة أو مؤسسة إعلامية بالتغريد وأنت لا تمتلك ضمانات كافية أن هناك عددًا كبيرًا من المستخدمين سيكونوا سُعداء الحظ ويرون تغريداتك ضمن الـ 1000 تغريدة الخاصة بهم يوميًا.
سيُساهم هذا التغيير بشكل قاطع في إضعاف مصداقية تويتر كمصدر للأخبار، وبعثرة أوراق أصحاب الصحف والمواقع الإلكترونية وجميع الهيئات الإخبارية التي تعتمد على تويتر كمصدرًا للجمهور المستهدف، تغيير بالتأكيد سيضر جميع الأطراف وسينتهي بمغادرة تويتر والبحث عن منصات أخرى لا تضع قيودًا على تجربة الاستخدام اليومية.
إلى إيلون ماسك .. الفيل في الغرفة: يمكنك تجاهله لكنه لا يزال هناك
قد يكون ماسك أثرى من جميع مستخدمي تويتر وسكان العالم تقريبًا ولكنه بالتأكيد ليس أقوى منهم بسبب الحرية الباهظة التي يمتلكها كل مستخدم بين يديه، حيث يمتلك حرية القيام بكل شئ بضغطات زر معدودة بدون أن يتم إجباره على شئ لا يرغب به.
مشكلة ماسك أنه فكر بعقلية اقتصادية بحتة مع مستخدمي تويتر كما لو أنهم شركة يسعى للاستحواذ عليها مثلًا أو صفقة يسعى لحسمها، انحرف بميزة علامة التوثيق الزرقاء عن غرضها وهدفها الأساسي وجعلها سلعة تجارية يمكن لأي مستخدم الظفر بها طالما أنه يمتلك المبلغ المطلوب.
افتكر ماسك لو لوهلة إنه بتضييق الخناق على المستخدم العادي، فقد يرضخ للضغوطات وينفق ماله الخاص على شراء العلامة الزرقاء وترك فئة المستخدمين الفقراء الكريهة بالنسبة له وستؤدي أرباح تلك الخطوة إلى تعويض الخسائر التي ستنتج عن انسحاب المُعلنين وانخفاض عدد المستخدمين، ولكن ما لم يُدركه بشكل جيد أن المستخدم يمتلك حق تقرير مصيره بين يديه ولا يُملى عليه ما يفعل على الإنترنت.
ختامًا
الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يجادل فيه هو أن استحواذ إيلون ماسك على تويتر أثار جدلاً حول كيفية ملائمة وسائل التواصل الاجتماعي لحياتنا كأداة لحرية التعبير وأداة للتواصل بين المجتمع العادي والسياسيين والمشاهير والشركات والكيانات الرسمية ووسائل الإعلام.
ما كان في يوم من الأيام أحد أكثر أدوات التسويق شيوعًا للشركات هو الآن في حالة تغير مستمر بسبب تصرفات مالك أهوّج يُعامل المنصة كما لو أنها عينة اختبار وليست مكانًا يضم مليارات المستخدمين يجب أن يتم الحذر عند اتخاذ أي قرار بشأنه.
في الوقت الحالي، المستقبل غير مؤكد ويبدو أنه يتقلب بشكل كبير كل يوم. كيف تؤثر هذه التغييرات الكبيرة على المستخدمين، الأفراد والشركات، سيبقى أن نرى حدة هذه المستجدات، ولكن من المؤكد أن تويتر في حالة سقوط حر ومُهدد بشكل كبير أكثر من أيٍ وقتٍ مضى.