على بُعد خطوات من أهرامات الجيزة، يقف المتحف المصري الكبير كأحد أعظم المشاريع الثقافية في القرن الحادي والعشرين، شاهداً على عبقرية المصري القديم والمصري المعاصر معًا. إنه ليس مجرد متحف لعرض كنوز الفراعنة، بل تجربة تكنولوجية متكاملة تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتاريخ. هنا، تلتقي الحضارة التي صنعت الزمن بأحدث ما أنتجه العقل البشري من أدوات رقمية وذكية، في تناغم مذهل بين الماضي والمستقبل.
فبين جدرانه المهيبة تمتزج التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير مع عبق التاريخ لتخلق تجربة غير مسبوقة: أنظمة ذكية تراقب الرطوبة والإضاءة لحماية الكنوز الذهبية، وواقع معزز ينقل الزائر عبر الزمن ليعيش تفاصيل الحضارة، ومنصات رقمية تربط كل شيء من التذاكر إلى الإرشاد والتفاعل.
إنه أكثر من متحف… إنه مدينة ذكية للتراث، مشروع وطني يضع مصر في طليعة الدول التي تمزج بين الابتكار والهوية الثقافية، ويُثبت أن التكنولوجيا ليست نقيضاً للتاريخ، بل بوابته إلى الخلود. سنغوص سويًا في التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير لنرى كيف يُترجم التراث إلى تجربة غنية، وكيف تُسخَّر التكنولوجيا لحمايته وتعزيزه.
أبرز التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير
لم يأتِ تفرّد المتحف المصري الكبير من ضخامته المعمارية فحسب، بل من اعتماده على مجموعة من التقنيات الحديثة التي جعلته من أكثر المتاحف تطورًا في العالم. فقد تم دمج التكنولوجيا في كل تفاصيله، من تصميم المبنى إلى تجربة الزائر داخل القاعات. وفيما يلي نستعرض أبرز التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير التي جعلت منه نموذجًا عالميًا في الحفاظ على التراث وتقديمه بأسلوب عصري ومبتكر.
رؤية شاملة لابتكار متحف ذكي
أطلقت مصر فكرة المتحف المصري الكبير كموقع ضخم للحفاظ على تراث الحضارة المصرية وإظهاره للعالم بأسلوب عصري. لتلبية هذه الرؤية، لم يكتفِ المتحف بالتصميم المعماري فحسب، بل تبنّى نظاماً تقنياً مبتكراً يُحوّل الزيارة إلى تجربة ذكية متكاملة.

فعلى سبيل المثال، تم توقيع شراكة استراتيجية بين المتحف وفودافون مصر لتطوير منصة زائر ذكية تعتمد على إنترنت الأشياء (IoT)، بهدف ربط أنظمة التذاكر، الدخول، التوجيه، المواقف، والواي فاي ضمن منصة واحدة ذكية ومتفاعلة، حسبما أفاد بيان رسمي لمجلس رئاسة الوزراء المصري.
كما أنّ المتحف حاز شهادة “EDGE Advanced” للبناء الأخضر من مؤسسة International Finance Corporation (IFC)، ما يجعله الأول من نوعه في أفريقيا والشرق الأوسط من حيث كفاءة الطاقة وإدارة الموارد.
هذه البنية التحتية التكنولوجية تُمكِّن المتحف من تقديم تقنيات حديثة، وتحقيق هدفين في آن واحد:
- حماية وتنمية التراث: عبر أنظمة ذكية لمراقبة البيئة، التحكم في الضوء، الرطوبة، الحركة، وغيرها
- تجربة زائر فريدة: عبر التفاعل الرقمي، الواقع المعزز، الإضاءة الذكية، والتوجيه الذكي
إدارة الطاقة والبناء الأخضر

واحدة من أبرز محاور التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير هي إدارة الطاقة والبناء المستدام. بعض الأبعاد:
- نمط البناء والتصميم: تم اختيار التصميم الفائز من مكتب Heneghan Peng Architects والمستوحى من أشعة الشمس الممتدة من الأهرامات، مع استخدام مواد محلية (رخام، جرانيت) ومساحات خضراء لتلطيف الجو الطبيعي.
- نظام ذكي لإدارة الطاقة: تعرّضت تقارير إلى أن المتحف يحقق توفيراً يصل إلى حوالي 62% في استهلاك الطاقة مقارنة بالمباني التقليدية، بفضل الألواح الشمسية، إضاءة LED منخفضة الاستهلاك، وتهوية طبيعية محسّنة.
- الذكاء في الإضاءة: على سبيل المثال، نفّذت شركة Signify Egypt نظام إضاءة ذكي يحتوي على أكثر من 30.000 وحدة إضاءة، وأجهزة تحكّم تكيّفية مع الضوء والحركة، متصلة بنظام إدارة المبنى (BMS) لتعديل المشاهد الضوئية تلقائياً وحماية القطع الأثرية.
- إدارة الموارد: أنظمة ذكية لمراقبة المياه والطاقة، مع تحليل بيانات الاستهلاك عبر نمذجة معلومات البناء (BIM) — كلها تقنيات لتقليل الهدر وتحسين الكفاءة.
- حصل المتحف على شهادة EDGE Advanced من مؤسسة IFC، ليصبح أول متحف في إفريقيا والشرق الأوسط يُصنف كـ”مبنى أخضر”.
لمَ يهم ذلك؟ لأن القطع الأثرية تحتاج بيئة دقيقة من حيث الحرارة والرطوبة والإضاءة. فبدون التحكم التكنولوجي، يمكن أن تتعرض للتلف. كما أن المتحف بصفته نقطة جذب ضخمة، فإدارة الطاقة تؤثر على الاستدامة التشغيلية والبيئية، ويمكنكم التعرف أكثر على آليات الاستدامة والحفاظ على البيئة أكثر هنا.
إنترنت الأشياء (IoT) والتشغيل الذكي

التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير لا تقتصر على واجهات الزائر، بل تمتد إلى التشغيل الداخلي للمكان. من أبرز ما تم:
- ربط جميع الأنظمة التشغيلية (البوابات، التذاكر، المواقف، الواي-فاي، الطاقة، التكييف، الأمن) ضمن منصة واحدة ذكية.
- استخدام مستشعرات ذكية لحركة الزوار، ضوء النهار، التكييف، الرطوبة، ما يساعد في ضبط التشغيل تلقائيًا وتحسين تجربة الزائر وتقليل التكلفة، حيث تم توقيع بروتوكول تعاون مع شركة Schneider Electric المحلية لاستخدام منصة EcoStruxure لإدارة البنية التحتية الحرجة مثل الكهرباء والتكييف والشبكات.
- ثمّة أيضاً جهود لتحويل بيانات الزوار ومتحركاتهم إلى معلومات تشغيلية تسهم في التخطيط الذكي، إدارة الحشود، وتوجيه الزوار. مثال عام على ذلك في بحوث المتاحف الأخرى يستخدمون تقنيات مماثلة لقياس مسارات الزوار وتحليلها.
باستخدام هذه التقنيات، المتحف لا يُدار فقط كمكان ثابت لعرض القطع الأثرية، بل كمركز حيّ ذكي يتفاعل مع الزوار والبُنى التحتية بشكل ديناميكي.
الواقع المعزز، الواقع الافتراضي وتجربة الزائر
التكنولوجيا المستخدمة في المتحف المصري جعلت تجربة الزائر أكثر من مجرد مشاهدة – أصبحت تفاعل ومشاركة. من بين أبرز الابتكارات:
- استخدام الواقع المعزز والمختلط (Mixed Reality) في المتحف: حيث يمكن للزائر ارتداء نظارات الواقع المختلط والاستماع إلى سرد تاريخي، مشاهدة هولوغرامات، مشاهدة المشاهد الفرعونية تتحرك أمامه وتعيشها تقريباً.
- تجارب افتراضية ثلاثية الأبعاد، تسمح للزوار بالتنقل في زنازين الملك توت عنخ آمون أو مشاهدة تطوّر الطقوس الجنائزية، بدمج التكنولوجيا مع الآثار.
- إشراك الأطفال والزوار بأسلوب تفاعلي: كألعاب تعليمية تتيح للأطفال تجربة الحياة الفرعونية عبر شاشات ذكية، تفاعلات كتابة هيروغليفية، وتجارب محاكاة التحنيط.
هذه التقنيات تجعل التاريخ حيّاً أمام الزائر بدلاً من أن يكون مجرد مجموعة من المسودات والتماثيل. وتمكن من جذب جيل جديد معتاداً على التجارب الرقمية.
الحفاظ على التراث: التكنولوجيا كحارس

في قلب مهمة المتحف – حماية التراث – تأتي التكنولوجيا كعنصر حاسم:
- التحكم في الظروف البيئية: الإضاءة، الحرارة، الرطوبة، انسداد الأبواب، كل ذلك يتم مراقبته بواسطة أنظمة ذكية لضمان الظروف المثلى للقطع. وهو ما يتم تطبيقه بسبب اتفاقية التعاون مع Schneider Electric لتوقع الأعطال وتشغيل نظام إدارة المبنى، وهو ما تم تسليط الضوء عليه في البيان الرسمي.
- الإضاءة الذكية التي تتيح مستويات مختلفة لساحة العرض أو الفعاليات الخاصة، وتحمي القطع من تعرض مفرط للضوء مما يمكن أن يؤذيها.
- التوثيق الرقمي والأرشفة: برنامج “البوابة الرقمية للتراث المصري” يهدف إلى أرشفة كل القطع والمواقع الأثرية في قاعدة بيانات رقمية، ما يسهل دراستها وحمايتها.
- الاستخدام الذكي للبناء والمراقبة لخفض البصمة الكربونية، ما يعزز الاستدامة ليس فقط بيئياً بل كمكوّن لحماية المبنى والقطع فيه.
تجربة الزائر: بين التقنية والحفاظ على الهوية التاريخية

عندما نتكلم عن التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير، لا يكفي سرد الأدوات – بل علينا أن نتحدث عن تجربة الزائر:
- التصوير الفوري مع القطع: عند المدخل، شاشات رقمية تتيح للزائر التقاط صورة مع أي قطعة تُضَاف رقمياً إلى جانبه، وإرسالها بالبريد الإلكتروني كذكرى.
- التوجيه الذكي والربط بين الزوار والمحتوى: عبر التطبيق أو المنصة الذكية، يمكن للزوار اختيار اللغة، نوع الجولة، التفاعل، والحصول على تجارب مخصصة.
- الربط بين التكنولوجيا والتراث الثقافي: التقنيات تُستخدم ليس للاستهلاك السريع، بل لتعميق الفهم وتمكين الزائر من رحلة استكشافية.
- التعلّم الشامل: للأطفال، العائلات، والباحثين، تجعل التقنية المتحف مكاناً يُمكِّن الجميع من المشاركة والتفاعل.
مع كل هذه، يصبح المتحف ليس مكاناً للنظر فقط، بل مكاناً للشعور والتفاعل في آنٍ واحد.
إن الحديث عن التقنيات المستخدمة في المتحف المصري الكبير ليس مجرد ذكر لأدوات حديثة، بل هو استعراض لكيفية التقاء حضارة عمرها آلاف السنين مع أدوات الثورة الرقمية. المتحف يريد أن يقول للعالم: إن التراث ليس قطعة جامدة تُعرض، بل حكاية تُروى، وتجربة تُعاش، ومستقبل يُبنى عليه. في هذا الصرح العظيم، يتمكن الزائر من السير بين الأعمدة القديمة، ومعه نظارات الواقع المختلط، وشاشة ذكية تُخبره، وإضاءة ذكية تُبرّز المعنى، ونظام ذكي يدير كل عملية خلف الكواليس. وهنا، تكمن الأسطورة الجديدة: إحياء التاريخ بتقنية اليوم، لحمايته لغدٍ أفضل.