أحدث استوديو Larian ضجة هائلة بعد الكشف عن لعبته الجديدة Divinity -في حدث The Game Awards 2025– في مجتمع اللاعبين والمطورين على حد سواء، بعد أن كانت تُعتبر لسنوات “الحصن المنيع” للتطوير اليدوي المتقن. هذا الجدل لم يكن مجرد نقاش تقني عابر، بل تحول إلى صراع فكري حول هوية الإبداع البشري في صناعة الألعاب، خاصة وأن الاستوديو هو صاحب النجاح الأسطوري لـ Baldur’s Gate 3، مما جعل أي توجه منه نحو الذكاء الاصطناعي يبدو وكأنه “خيانة” للمعايير التي وضعها بنفسه.
الشرارة التي أشعلت هذا الانقسام أعادت فتح ملف استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في الفنون، حيث انقسم الجمهور بين من يراه تطوراً طبيعياً لزيادة ضخامة الألعاب، وبين من يراه تهديداً مباشراً لفرص عمل المبدعين البشر. هذا التوتر يعكس مخاوف أعمق من تحول الألعاب من منتج فني إلى محتوى آلي يفتقر للروح واللمسة الإنسانية التي ميزت روائع العقد الماضي.
ماذا حدث بالضبط مع Larian؟

بدأت القصة عندما أجاب “سفين فينك“، المدير التنفيذي لشركة Larian، على أسئلة في حوار مطول مع مجلة Bloomberg. خلال الحوار، كشف فينك بصراحة غير متوقعة أن الفريق بدأ بالفعل في دمج أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي في سير العمل الخاص بالجزء الجديد القادم من سلسلة Divinity. وأشار إلى أن التقنية تساعدهم في العصف الذهني وتوليد تصورات بصرية أولية بسرعة كانت تتطلب أسابيع في السابق.
هذا التصريح نزل كالصاعقة على المتابعين، حيث فُهم منه أن الاستوديو بدأ يعتمد على الخوارزميات بدلاً من خيال الفنانين. وما زاد الطين بلة هو التوقيت، حيث تمر صناعة الألعاب بموجة تسريحات كبرى، مما جعل حديث “فينك” عن كفاءة الذكاء الاصطناعي يبدو للبعض وكأنه تبرير مبطن لتقليص الاعتماد على الكوادر البشرية في المستقبل لصالح الأتمتة.
عاصفة الـ Backlash ورد لاريان الرسمي

لم يتأخر رد الفعل الغاضب من مجتمع اللاعبين والمصممين، حيث ضجت منصات التواصل الاجتماعي بالانتقادات التي اتهمت الاستوديو بالتخلي عن الحرفية اليدوية. اعتبر الكثيرون أن استخدام الذكاء الاصطناعي في استوديو بحجم Larian سيعطي الضوء الأخضر للشركات الجشعة لتقليص ميزانيات الفنون والاعتماد على صور ونصوص بلا روح، مما دفع الاستوديو للتحرك سريعاً لمحاولة احتواء الموقف.
في رد رسمي لتوضيح اللبس، أكد Larian أن استخدام الذكاء الاصطناعي يقتصر فقط على كونه “Place Holder“ أو “عنصر مؤقت”. وأوضحوا أن الصور المولدة آلياً تُستخدم فقط كنقاط انطلاق داخلية لمساعدة الفنانين البشر على فهم التوجه الفني، وأن كل بكسل وكل كلمة في النسخة النهائية من اللعبة ستكون من صنع يد بشرية بنسبة 100%. الاستوديو شدد على أن الهدف هو توفير الوقت في المسودات وليس استبدال المبدعين.
استمرار الجدل وجلسة الـ Q&A المرتقبة

رغم التوضيحات، لم يهدأ الجمهور تماماً، حيث ظلت الشكوك تحوم حول المنحدر الزلق الذي قد يؤدي إليه هذا الاستخدام، حتى لو كان مؤقتاً. رأى البعض أن تدريب الفنانين على مسودات مولدة آلياً قد يحد من آفاقهم الإبداعية ويجعلهم أسرى لأنماط الذكاء الاصطناعي المتكررة. هذا الضغط المستمر دفع الإدارة لإدراك أن تغريدة أو تصريحاً صحفياً لن يكون كافياً لترميم الثقة المهتزة.
ونتيجة لذلك، أعلن فريق Larian عن تنظيم جلسة Q&A (أسئلة وأجوبة) موسعة ستُعقد بعد انتهاء عطلة الأعياد مباشرة. يهدف الفريق من خلال هذه الجلسة إلى استعراض سير العمل بشفافية كاملة أمام الجمهور، وشرح كيف تخدم هذه الأدوات المبدعين بدلاً من تقويضهم. هذه الخطوة تُعتبر محاولة جريئة لمواجهة المخاوف وجهاً لوجه بدلاً من الهروب من الجدل.
رأيي الشخصي: الذكاء الاصطناعي بين “العمل الشاق” والإبداع

من وجهة نظري، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير الألعاب ليس شراً مطلقاً، بل هو أداة قوية إذا وُجهت بشكل صحيح. الحقيقة أن الصناعة تستخدم تقنيات تعلم الآلة (Machine Learning) منذ عقود قبل ظهور موجة الذكاء التوليدي الحالية، فخوارزميات تحريك الشخصيات وتوزيع الأشجار في العوالم المفتوحة وتحسين جودة الصور (Upscaling) كلها أدوات تقنية وفرت مجهوداً خرافياً دون أن تمس جوهر الإبداع.
المشكلة الحقيقية تبدأ عندما نحاول إقحام الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية الصرفة مثل كتابة الحوارات أو رسم الشخصيات. هذه الجوانب هي قلب اللعبة، والاعتماد فيها على الآلة ينتج أعمالاً باهتة تفتقر للعمق العاطفي. يجب أن يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على ما نسميه الـ “Donkey Work” أو المهام الرتيبة والمملة، مثل تنظيف كود البرمجة، أو أتمتة اختبارات الأخطاء (Bug Testing)، أو معالجة ملفات الصوت الضخمة.
في النهاية، الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون خادماً للمطور وليس سيداً للعملية الفنية. عندما يستخدم المطور التقنية لرفع الأعباء التقنية الثقيلة عن كاهله، فإنه يتفرغ للإبداع الحقيقي. لكن عندما يبدأ في استخدامها كـ “اختصار” لتوفير المال على حساب الموهبة البشرية، فإنه يخاطر بفقدان الهوية التي تجعل ألعابه مميزة في المقام الأول.
تجارب بين النجاح والفشل في استخدام التقنية

هناك أمثلة واضحة على هذا التباين، فتقنية DLSS من Nvidia التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لرفع الأداء، تُعد من أعظم الإضافات التي خدمت اللاعبين تقنياً دون ضرر فني.
على الجانب الآخر، رأينا تجارب كارثية مثل بعض النسخ المحسنة (Remasters) التي اعتمدت على الذكاء الاصطناعي بالكامل لرفع جودة الرسوم دون تدخل بشري، مما أدى لظهور شخصيات مشوهة وضياع التفاصيل الفنية الأصلية.
مستقبل الصناعة: هل هو مبشر أم مظلم؟

مستقبل صناعة الألعاب يقف الآن عند مفترق طرق تاريخي، فإما أن نرى عصراً ذهبياً جديداً تتقلص فيه فترات التطوير الطويلة (التي وصلت لـ 6-7 سنوات) بفضل مساعدة الآلة في المهام التقنية، مما يسمح بإنتاج ألعاب أكثر ضخامة وتنوعاً. في هذا السيناريو، سيكون الذكاء الاصطناعي هو المحرك الذي يسمح للاستوديوهات الصغيرة بإنتاج ألعاب تنافس الشركات الكبرى بجودة تقنية مذهلة.
لكن السيناريو المظلم يظل قائماً، وهو أن تنجرف الشركات نحو التوحيد المعياري، حيث تصبح الألعاب متشابهة، باهتة، ومصممة بناءً على ما تراه الخوارزميات محبوباً بدلاً من رؤية المطور الفنية. النجاح في المستقبل لن يكون لمن يمتلك أقوى ذكاء اصطناعي، بل لمن يمتلك الحكمة لاستخدام هذه القوة دون أن يحرق روح الإبداع البشري في طريقها.