خلال السنوات القليلة الماضية، أصبح موقع التواصل الأشهر في العالم، فيسبوك، في حالة يرثى لها. سياسات وقيود جديدة أصبحت تفرض على المستخدمين، وفوق هذا، يُراقبون وتُسرب بياناتهم كما رأينا في حادثة كامبريدج أناليتكا الشهيرة والتي مَثَلَ على إثرها مارك زوكربيرغ أمام الكونجرس الأمريكي ووجهت إليه عشرات الاتهامات، أبرزها أدت إلى التلاعب بنتيجة الانتخابات الأمريكية وفوز دونالد ترامب.
أيضًا اشتهار الفيسبوك مؤخرًا بقيوده الصارمة والتي يستغلها مارك زوكربيرغ بححجه وأعذاره المُبالغ فيها مثل “محاربة الإرهاب” ودعم المثليين بطريقة تجاوزت العقل والمنطق؛ فأصبحنا نرى مئات الحسابات تُغلق لأسباب تافهة وخوارزميات لا تستطيع التمييز بين الجد والمزاج. كل تلك الأمور أدت إلى نفور المستخدمين من موقع التواصل الأزرق وهذا أدى إلى خسارته مليارات الدولارات خاصةً بعدما أصبح تحت مظلة Meta؛ وهو العالم الافتراضي الجديد الذي أعلن عنه مؤسس الفيسبوك.
كل تلك الأمور في كفة، وتحريضه للعنف ضد روسيا جرّاء الحرب الأخيرة على أوكرانيا في كفة أخرى. ألم يُغلق فيسبوك حسابات الأشخاص التي تحرض على العنف من قبل؟
نحن بالتأكيد نندد بأي حرب على أي بريء، وبالتأكيد لا نرضى بما يحدث الآن للشعب الأوكراني ومتأسفين على الحال الذي وصلنا إليه، ولكننا كذلك نندد بالحرب ضد السوريين أو العراقيين أو أي بريء مهما كان عرقه، وجنسه، ولونه، ودينه، وهذا ما لا يعرف فيه الفيسبوك طريقًا للحياد.
انخفاض مروع
في الشهر الماضي، شهدنا انخفاض أسهم الفيسبوك بمقدار الربع وخسارته مليارات الدولارات، وبالتحديد 220 مليار دولار ليُخسف بالشركة من الناحية السوقية. حدث أن رأينا -لأول مرة منذ تأسيسه في 2004- انخفاض عدد المستخدمين العالمي اليومي من 1.93 مليار مستخدم إلى 1.929 في الربع الثالث في 2021. أفريقيا وأمريكا اللاتينية كانا السبب في ذلك الانخفاض، وهذا مؤشر خطير بالنسبة لفيسبوك، كيف لا وهي التي تسعى للتوسع خارج نطاق الولايات المتحدة الأمريكية؟
مؤشرات الانخفاض كانت واضحة منذ العام الماضي، عندما فجرت عالمة البيانات “فرانسيس هوغن” مفاجأة على هيئة تقرير يوضح أن فيسبوك بدأ يفقد العديد من المستخدمين الشباب في البلاد الغربية وغير الغربية على السواء.
تيكتوك هو السبب؟
اعترف مارك زوكربيرغ بهذا الانخفاض وأعزى السبب بشكل أساسي، وبطريقة غير مباشرة إلى القدرة على التركيز Attention Span لدى الجيل الجديد، وهذا عندما “وجه أصابع الاتهام” إلى تطبيقات عديد أهمها تطبيق تيك توك، فقال: “أصبح لدى الناس خيارات عديدة تسمح لهم بقضاء وقتهم أينما يشاؤون، وتطبيق مثل تيك توك ينمو بسرعة فائقة.” وبالطبع، معه حق؛ فالتطبيق الصيني يمتلك الآن ما يفوق المليار مستخدم وهذا بفضل فيديوهاته القصيرة والـ Reels، وهي فيديوهات يصل طولها إلى 60 ثانية كحد أقصى وهو ما يريده هذا الجيل، جيل الزومرز أو الجيل Z.
فيسبوك وازدواجية المعايير
بعيدًا عن تراجع عدد المستخدمين وهبوط أسهم الشركة، تأتينا السقطة الثانية.
فبعد أن كان زوكربيرغ يوهمنا بالسلام ومحاربته للعنف ولمن يحرض عليه، قرر مؤسس الفيسبوك أن يغير سياساته على الموقع الأزرق بالإضافة إلى الانستاجرام كذلك، فأصبح الآن بإمكانك أن تحرض علنًا على روسيا وما تفعله في أوكرانيا. تخيل أن فيسبوك، والذي نصّب نفسه مراقبًا للآخرين، يقول لك: يمكنك الآن أن تحرض على أذية، بل وقتل الجنود والسياسيين الروس كذلك!
وصلنا هذا القرار لأول مرة من وكالة الأنباء اللندنية “رويترز”، عندما أمدتنا بتقارير تفيد بسماح الفيسبوك بالتحريض بالقتل ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بشرط ألا تحتوي تلك التهديدات على أُناس أبرياء أو مؤشرات واضحة مثل “أين” أو “كيف”.
وفي بيان نُشر مؤخرًا، قال المتحدث الرسمي باسم Meta، آندي ستون، إنهم سمحوا مؤقتًا بأشكال “التعبير السياسي” التي عادةً ما تنتهك قواعد الفيسبوك مثل التحريض على القتل، ولكن هذه المرة ضد الجنود والسياسيين الروس.
وأكدت صحيفة نيويورك تايمز أن هذه السياسية تنطبق على الأشخاص الذين يستخدمون الخدمة في أوكرانيا، وروسيا، وبولندا، ولاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا، وسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا. وتشير المجلة أيضًا أنه في عام 2021 حدث شيء مشابه لتلك السياسات حول بعض المحتوى المُحرِض على المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، الإيراني “علي خامنئي”.
غضب الرأي العام
ما أثار الرأي العام بعدما علم بتلك السياسات كانت ازدواجية المعايير التي لا يخجل الفيسبوك من البوح بها بطريقة غير مباشرة؛ فكيف يمكن أن تُحرض على بوتين وهو يشن حربًا على أوكرانيا، ولا تحرض عليه عندما ينتهك الأراضي السورية على سبيل المثال؟ هناك عشرات الأمثلة.
إذا تحدثنا عن فلسطين على سبيل المثال، وما حدث في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بحي الشيخ جراح، رأينا كيف ندد ووقف الفيسبوك مع الكيان المحتل وكيف كان يحظر كل من يتحدث عن فلسطين ولو بأبسط الحقوق. تلك هي ازدواجية المعايير كما يجب أن تكون؛ أن تقف مع الكيان المحتل وأوكرانيا ولا تلقي للشعب الفلسطيني أو السوري أو غيرهم من الشعوب المقهورةِ بالًا.
قد لا تكون قرارات الفيسبوك الأخيرة خاطئة وأن الصواب هو الضغط على بوتين بكل الطرق الممكنة ليتوقف عن قتل الأبرياء، ولكن الأمر المزعج والمشين يتمثل في تمييز طبقة عرقية على الأخرى؛ فإذا كنت تبحث عن السلام وتبغض الحرب، فابغض الحرب في كل مكان ولا تجعل مصالحك الشخصية تقودك لاتخاذ قرارات هوجاء مثل تغيير سياساتك من أجل فئة معينة وسد أُذنيك عن الفئة الأخرى. وفي النهاية، نحن لا نتحدث على الخطأ والصواب. نحن فقط نعرض تناقدات فيسبوك.