مقالات

سلسلة مقالات تحف منسية (الجزء السادس): The Medium

اشتُهر استوديو Bloober Team الموهوب خلال السنوات الأخيرة بتطوير ألعاب رعب رائعة بمستوى يقترب من ألعاب الـAAA أهمها Observer و Layers of Fear بجزئيها الأول والثاني وبالطبع The Medium الصادرة عام 2021، وبعد نجاحها العظيم سارعت كبرى شركات الصناعة بتوقيع شراكات مع هذا الاستوديو الموهوب، فقد وقعت Konami مع الاستوديو شراكة استراتيجية لمشاركة تقنيات التطوير والعمل على بعض العناوين وأولها Silent Hill 2 Remake، كما استحوذت شركة Tencent العملاقة على 22% من أسهم الاستوديو خلال عام 2021!

بدأ التفكير في تطوير The Medium عام 2012 عندما فكر رئيس الاستوديو Wojciech Piejko في العمل على لعبة رعب نفسي يكون بطلها وسيط الأرواح مهمته تحرير الأرواح المحبوسة ويستطيع رؤية عالمهم بالطبع والتفاعل بداخله، ولذلك تتطلب اللعبة رؤية عالمين في نفس الوقت. كان من المفترض أن تصدر اللعبة عبر منصات Xbox 360 و PS3 و Wii U خلال نفس العام، ولكن للأسف لم تكن المنصات في ذلك الوقت قادرة على تشغيل شاشة منقسمة لنصفين بعالمين مستقلين لهما رسومهما وزواياهما وحركتهما، لهذا قرر الاستوديو التركيز في عناوين أخرى لحين نضوج التقنية وهو ما حدث بصدور منصات الجيل الجديد من Xbox ليستكمل الاستوديو تطوير اللعبة ويقوم بطرحها مطلع عام 2021.

The Medium

لا يمكن لأحد إنكار روعة عنوان مثل The Medium نظراً لما تميزت به اللعبة من قصة عظيمة وشخصيات لا تُنسى وموسيقى تصويرية رائعة من المبدع Akira Yamaoka، بالإضافة لتصميم عالم مرعب يتضمن توجه السيريالية البائسة الذي قبض قلوبنا، وما يزيد العالم رعباً نظام الكاميرا الثابتة من الأجزاء الأولى من Silent Hill و Resident Evil. أيضاً قدمت The Medium أسلوب لعب استثنائي لم تشهده أي لعبة من قبل وهو إمكانية التفاعل بين العالم الحقيقي والروحي في نفس اللحظة واستخدامهما معاً لحل الألغاز والتخفي من الكيان الشيطاني The Maw.

تنويه: تحتوي المقالة على حرق للأحداث.

قصة ملحمية وشخصيات مؤثرة تليق بعمل سينمائي عظيم!

لن تمر دقائق من تجربة اللعبة لتلاحظ مدى روعة القصة، حيث تبدأ برؤية بطلة اللعبة Marianne لحلم يقتل فيها رجل فتاة صغيرة عند البحيرة. تزور Marianne منزل والدها بالتبني Jack لتقرأ خطاباته القديمة وتفتش أغراضه بغرض استرجاع بعض الذكريات وتوديع جسمانه لمرة أخيرة، وفجأة يرن الهاتف لتسمع صوت شخص اسمه Thomas يخبرها بأنها ستعرف أصل قدراتها وتفسير للحلم الذي رأته عندما تقابله في منتجع Niwa، ومن هنا تجهز Marianne دراجتها النارية لتبدأ رحلتها لمعرفة ما حرص Thomas على عدم كشفه لسنوات. هذه المقدمة السينمائية بامتياز ستشعل بداخل قلبك ناراً وقودها حب الاستكشاف بطريقة قد لا يتم إخمادها حتى بعد إنتهاء القصة!

القصة تفرض عليك العديد من التساؤلات، منها من هو Thomas حقاً؟ وما الذي يعرفه عن Marianne؟ ولماذا تركها؟ وما هو تفسير الحلم الذي رأته؟ ولماذا منتجع Niwa بالذات؟ لن تحصل على إجابة نهائية لكل هذه الأسئلة إلا بإنهاء القصة المليئة بالمفاجآت الواحدة تلو الأخرى، بل أن نهاية القصة نفسها مفتوحة! فبعد أن وجدت Marianne أختها Lilianne عند البحيرة التي ظهرت بالحلم، هل قتلتها فعلاً بناءً على طلبها وتحقيقاً للحلم ليرقد The Maw بسلام أم لم يطاوعها قلبها فقتلت نفسها ليظل كيان The Maw الشيطاني محبوساً للأبد؟ ولن تجد إجابة لهذه النهاية إلا بصدور جزء آخر، ولقد أحسن الاستوديو صنعاً في جعل النهاية مفتوحة ليصدر جزءً آخر يستكمل القصة.

أكاد أجزم بأنه ما من شخص سيجرب The Medium إلا وسيتأثر بشخصياتها، ستشعر حتماً بالتعاطف نحو Marianne لأنها تمر بوقت عصيب لا يتمنى أي إنسان معاصرته، ألا وهو موت والدها ولو كان بالتبني، كما أنها لا تعرف شيئاً عن أختها ولا تتذكر كيف فرق القدر بينها وبين أسرتها، وفجأة تقلب مكالمة شخص ما حياتها رأساً على عقب عندما تكتشف أنه والدها الفعلي، وما لبثت أن قابلت أختها لتجد نفسها مخيرة بين قتل أختها أو التضحية بنفسها والنتيجة حتمية؛ الفراق نهائياً! أما Thomas فقد تظن في البداية أنه رجل ظالم اهتم بإحدى بناته، والأخرى تركها وذهب بعيداً فحسب، ولكن ستعرف أنك أخطأت في الحكم عندما تعرف أنه لم يفعل سوى واجب الآباء، وهو حماية أبنائه مهما كان الثمن، ولكنه كان يتألم بالتأكيد.

طاقم من الممثلين أكثر من رائع للشخصيات الرئيسية

إذا جربت The Medium، فحتماً سيعلق في ذهنك صوت شخصياتها الرئيسية بدون مبالغة خصوصاً عندما تعرف أن الرائعة Kelly Burke مؤدية صوتية لشخصية Marianne التي قامت بعمل رائع حقاً، علماً بأن Marianne تتحدث طوال الوقت ولو لم يوجد حوار، ولكن المفاجأة ليست مع Marianne وإنما مع الكيان الشيطاني The Maw فهل ستصدق أن Troy Baker المؤدي الصوتي له؟! نعم، إنه المؤدي الصوتي لكل من Joel Miller و Nathan Drake و Booker DeWitt وغيرهم من أبطال أعظم الألعاب. إن تفاجأت، فأنت لست وحيداً لأنني كنت مندهشاً أيضاً.

The Medium

ليست أصوات المؤديين الصوتيين فحسب التي ستذهلك في The Medium، فتمثيل الحركة لا يقل روعة عنها. النجمين البولنديين Weronika Rosati و Marcin Dorociński كانا الممثلين الحركيين لكل من Marianne و Thomas على الترتيب. عموماً توفر اللعبة ساعة ونصف من الالتقاط الحركي “Motion Capture”، وهذا رقم جيد مقارنةً بالقصة البالغة 8 ساعات تقريباً، ولاحظ أننا نتحدث عن مطور مستقل وليس استوديو عملاق.

إنجاز تقني عظيم ينقل أسلوب اللعب لمستوى غير مسبوق!

ذكرنا في بداية المقالة أن اللعبة تقوم على رؤية عالم الأرواح وعالم الواقع في نفس الوقت، وبما أن منصات الجيل القديم لم تكن مؤهلة لمعالجة عالمين بتفاصيلهما في نفس الوقت بأداء مناسب، قرر استوديو Bloober Team الانتظار لبضعة سنوات حتى صدور منصات Xbox Series X|S و PS5 ليستكمل بعدها تطوير اللعبة برسوميات قوية وميكانيكيات حركة واقعية بفضل استخدام محرك Unreal Engine 4، علماً بأن حاسوبي الشخصي يقترب من أداء Xbox Series S ورغم ذلك يعاني تقنياً مع المقاطع السينمائية وبعض المراحل التي تعرض العالمين معاً!

استطاع الاستوديو تقديم أسلوب لعب فريد من نوعه وغير مسبوق عبر استغلال العالمين بأفضل شكل ممكن، وفكرة العالمين إسقاط على أن الحقيقة ليست أمراً مؤكداً. رؤية عالم الأرواح تساعد Marianne على رؤية The Maw وتجنبه ولاختباء منه وتمكنها من التفاعل مع Sadness وروح Thomas، ولكن الذي يهمنا هنا تسخير عالم الأرواح لحل الألغاز في العالم الواقعي، فمثلاً إن كانت الكهرباء مُعطلة وتوجد حواجز في عالم الواقع تحول دون الوصول للدوائر الكهربائية وتشغيلها، تستطيع Marianne التجول بروحها في عالم الأرواح مادياً لتشحذ قواها الروحية وتصعق الدوائر الكهربائية لتعود الكهرباء مجدداً، ولكن لا يمكنها التواجد مادياً بعالم الأرواح إلا لوقت قصير وإلا ستموت. أحياناً تتطلب اللعبة التنقل بالمرايا من العالم الواقعي لعالم الأرواح والعكس عندما يستحيل الوصول لإحدى الغرف بمنتجع Niwa ولا تكون هناك طريقة إلا بالتنقل عبر مرآة تلو الأخرى.

عظمة التجربة البصرية والسمعية تجعلان من The Medium لوحة فنية بتوجه بائس!

تُعد التجربة البصرية من أعظم ما تقدمه The Medium، وهذا ما يتضح جلياً في عالم الأرواح الذي اقتبس استوديو Bloober Team تصميمه من أعمال السيريالية البائسة للفنان البولندي Zdzisław Beksiński، وهو نفس ما حدث مع ألعاب أخرى أهمها Scorn و Returnal. أما عالم الواقع، فقد سلط الاستوديو من خلاله الضوء على ازدواجية الهوية بعد تحول بولندا للديمقراطية وانفصالها عن الكتلة الشرقية الشيوعية في التسعينيات، لهذا استلهم الاستوديو تصميم منتجع Niwa من فندق Cracovia الذي تم إنشاؤه في ظل الاتحاد السوفييتي، نظراً لأن تصميم المباني السوفييتية يدعو للبؤس وهو ما يليق بأجواء اللعبة.

The Medium

على ذكر التجربة البصرية، فاللعبة تتميز برسوميات قوية تجعل متطلباتها التقنية عالية وتؤثر بشكل كبير على معدل الإطارات، تصميم العالم مليء بالتفاصيل بما يشمل الأرضيات والجدران ووجوه الشخصيات وملابسهم، وانعكاسات الأضواء والظلال على الأسطح والمياه دقيقة نوعاً ما، كما أن الهالات الضوئية وحركتها من أجمل ما رأيت، وأخيراً فإن تنوع الألوان وتباينها رائع، ولقد ذكرنا مسبقاً أن اللعبة مبنية على محرك Unreal Engine 4.

التجربة السمعية لا تقل جمالاً عن التجربة البصرية، فالمؤثرات الصوتية واقعية وغامضة وأحياناً مرعبة. أما الموسيقى، فإنها من نوع خاص موجه لأصحاب الذوق الرفيع، وهذا مُتوقع من الموزع العظيم Akira Yamaoka المدير السابق لفريق تحفة صوتيات Silent Hill والموزع Arkadiusz Reikowski. تتضمن نهاية اللعبة ثلاثية غنائية رائعة بصوت المؤدية الصوتية Mary Elizabeth McGlynn هم Fade (مع Troy Baker) و Voices و Across The Shore. التجربة الصوتية هنا مُصممة لتنغمس بداخل عالم اللعبة ولتعلق في ذهنك لفترة طويلة!

ختاماً

لعبة The Medium تحفة فنية تضاهي العديد من ألعاب الرعب العملاقة، فقد ضرب لنا استوديو Bloober Team مثالاً يستحق الإشادة والتصفيق الحار لما يمكن أن تكون عليه لعبة مستقلة بميزانية محدودة نسبياً، ورغم ذلك شارك بها ثلة من نخبة الممثلين والموسيقيين. لا تركز اللعبة على الرسوميات وأسلوب اللعب وميكانيكيات الحركة فحسب، بل حازت المؤثرات الصوتية والموسيقى والتوجهات الفنية والخلفية التاريخية على اهتمام كبير. لقد بذل الاستوديو الشغوف جهداً رائعاً يضمن له مكانة مميزة في الصناعة!

Mohamed Tahazohier

رئيس قسمي التقنية والهاردوير في Games Mix ومدير محتوى بفروعها. خبرة تفوق 5 سنوات في التقنية وخصوصاً الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب. مهتم بصناعة الألعاب، ومحب لألعاب الشوتر والخيال العلمي. مؤسس صفحة تطبيقك على فيسبوك.
زر الذهاب إلى الأعلى