ينتظر الجميع بفارغ الصبر مشاهدة فيلم Oppenheimer الذي يعرض ملحمة أسطورية عن أحد أهم العلماء الذين ساهموا في تغيير مستقبل البشرية بابتكار القنبلة الذرية، في وقت يتسابق فيه كل من دول الحلفاء بزعامة الولايات المتحدة ودول المحور بزعامة ألمانيا النازية على الإتيان بسلاحه الذري الذي سيدق المسمار الأخير في نعش الحرب، وهو ما حدث بإلقاء الولايات المتحدة لقنبلتيها الذريتين فوق هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين في عام 1945.
بالطبع لن أحدثك هنا عن الجانب الفني للفيلم، وإن كنت سأحدثك عن نوع آخر من الفن، ألا وهو التقنية كما حزرت يا عزيزي! لقد تفاجأت حقاً من التقنيات الرهيبة التي أتاحتها IMAX بالتعاون مع Kodak و Fotokem والحلول المبتكرة التي قدمها المخرج العبقري Christopher Nolan والأداء المتميز للمصور Hoyte van Hoytema، بالإضافة للمؤثرات الحقيقية المُستخدمة في تنفيذ مشاهد الانفجارات، وبالطبع ميزانية الإنتاج العملاقة المُقدرة بقيمة 180 مليون دولار حسب Box Office.
لقد تعمقت في البحث عن أكبر قدر متاح من المعلومات الخاصة بالجانب التقني من إنتاج فيلم Oppenheimer، وبالرغم من قلة هذه المعلومات نسبياً، إلا أنني قد استخلصت عنصرين أساسيين تميز فيهما الفيلم؛ معدات التصوير بما يشمل الكاميرات والعدسات وأشرطة التصوير، ومعدات العرض بما يشمل أشرطة الفيلم وأجهزة العرض والشاشات. دعنا لا نطيل سرداً تقديمياً، ولنتطرق لمستقبل تقنيات صناعة الأفلام الذي قد يغيره فيلم Oppenheimer للأبد!
فيلم Oppenheimer يغير مفهومنا عن الكاميرات السينمائية!
استخدم Christopher Nolan العديد من الكاميرات ذات القدرات المتفاوتة بهدف تقديم تجربة بصرية فائقة الجودة والتنوع. أهم هذه الكاميرات كانت MKIII و MKIV و MSM9802 المُقدمة من IMAX. تتميز هذه الكاميرات بحجمها الضخم ويرجع ذلك للصندوق الحديدي أعلاها والذي يتضمن شريط التصوير الذي يدور أفقياً. لكن يعيب هذه الكاميرات الضوضاء العالية التي تصدرها، مما يجعل تسجيل المشاهد التي تحتوي على حوارات شبه مستحيلة، ولذلك تعاون Nolan مع IMAX لتزويد هذه الكاميرات بتقنيات كاتمة للصوت ليتمكن من استخدامها!
بما أن الفيلم يتضمن مشاهد اختبارات الانفجارات النووية التي أجرتها الحكومة الأمريكية في صحراء Los Alamos، فكان من اللازم استخدام كاميرات فائقة السرعة ليتمكن المشاهدون من رؤية هذه الانفجارات ببطء. تنقسم هذه الكاميرات لنوعين أساسيين يختلفان من حيث السرعة والجودة؛ كاميرات الـPin-Registered الشائعة منهما، وكاميرات الـRotary Prism محدودة الانتشار.
تتميز كاميرات الـPin-Registered بجودتها الخارقة ولكن يعيبها قلة معدل الإطارات عن نظيرتها من النوع الآخر، ومن كاميرات هذا النوع المُسخدمة بالفيلم كاميرا Photo-Sonics Actionmaster 500 بمعيار 16mm المحدودة بمعدل 500 إطار في الثانية، وكاميرا 4ER Photo-Sonics بمعيار 35mm المحدودة بمعدل 360 إطاراً في الثانية. هذا النوع من الكاميرات مطلوب للمشاهد عالية الجودة والتي لا تتطلب معدل إطارات مرتفع كثيراً.
لكن إذا كانت المشاهد تتطلب سرعات فائقة، فيجب استخدام كاميرات الـRotary Prism، فهذه الكاميرات محدودة الانتشار وتُستخدم لأغراض غير مألوفة، وذلك لأنها تتميز بقدرتها على التصوير بمعدل إطارات فائق يُقدر بالآلاف! من كاميرات هذا النوع المُستخدمة بالفيلم كاميرا Photo-Sonics 4C بمعيار 35mm وتستطيع التصوير بمعدل 2,500 إطار في الثانية، وكاميرا Photo-Sonics E10 بمعيار 16mm وتستطيع التصوير بمعدل 10,000 إطار في الثانية!
التصوير بمعدل إطارات مثل المذكور أعلاه يسمح بعرض المشاهد فائقة السرعة التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة عن طريق تقنية الحركة البطيئة “Slow Motion”. من أمثلة هذه المشاهد خروج الرصاصة من فوهة بندقية، وانطلاق الوسادة الهوائية في وجه السائق، والاصطدام السريع بالمياه، وبالطبع الانفجارات ذات الطبيعة الخاصة على غرار تجارب مشروع Manhattan بصحراء Los Alamos بفيلم Oppenheimer.
التصوير بالأبيض والأسود: هذا ما يعشقه Christopher Nolan!
لقد تفاجأ الجميع عندما تم الكشف عن تصوير بعض مشاهد Oppenheimer بالأبيض والأسود، ولكن لم يتفاجأ متابعو Christopher Nolan المخضرمين الذين يعرفون جيداً بعشق Nolan لهذا الأسلوب، وهو نفس ما حدث في فيلم Momento الصادر عام 2000، فقد كان الفيلم مُقسماً لجزئين حسب أسلوب التصوير؛ أولهما بالأبيض والأسود ويسير بشكل خطي ضمن أحداث الماضي “Flashback”، وثانيهما بالألوان العادية ويسير بشكل عكسي ضمن الأحداث الحالية، مما أصاب المشاهدين بارتباك شديد!
بالطبع لدى Nolan أسباب وجيهة لذلك، وتتعلق هذه الأسباب بأسلوب السرد البصري لقصة الفيلم، فهذا الأسلوب يضمن ارتباط المشاهدين بأحداث الفيلم، ويجعل من الفيلم ذكرى لا تُنسى. شخصياً، أنا لا أفضل الأبيض والأسود في معظم الأعمال نظراً لأنها تقدم تجربة بصرية شنيعة وغاية في الكآبة، إلا أنه ضروري في أعمال تاريخية لشخصيات بارزة مثل العالم Oppenheimer، ولقد فسر Nolan اتجاهه لاستخدام الأبيض والأسود قائلاً:
لقد علمت أن لديّ جدولان زمنيان يجريان داخل الفيلم. أحدهما مشهد مُلون، وهذه تجربة Oppenheimer الذاتية، وهذا هو الجزء الأكبر من الفيلم. الآخر جدول زمني بالأبيض والأسود، إنها نظرة أكثر موضوعية لقصته من وجهة نظر شخصية مختلفة.
Christopher Nolan
لقد أراد Nolan أن تكون المشاهد المُصورة بالأبيض والأسود بنفس جودة المشاهد المُصورة بالألوان، ونظراً لأن المشاهد المُصورة كانت بأشرطة أفلام بمقاس 65mm من IMAX و Panavision، فلم تكن هناك أشرطة مساوية بالأبيض والأسود. عندما يتعلق الأمر بعمل يكون Nolan مشاركاً فيه، فلكل شيء حل. هنا لجأت IMAX لكل من Kodak و Fotokem لتطوير أشرطة أفلام بمقاس 65mm بالأبيض والأسود، وهذه أشرطة لم تكن موجودة من الأساس! هذا عن الأشرطة، أما عن الكاميرا، فقد وقع الاختيار على كاميرا IMAX MSM 9802.
واجه فريق التصوير مشكلة أخرى تتعلق بتصوير الوجوه باستخدام كاميرات IMAX، فهذه الكاميرات تلتقط الصور بصيغة تصوير ضخمة، مما يجعلها تلتقط كم هائل من التفاصيل لدرجة يصعب معها تصوير الوجوه بدون كشف كل تفصيلة مهما كان حجمها، والأمر يسوء مع مشاهد الأبيض والأسود، فغياب الألوان الأخرى يجعل التفاصيل أكثر نقاءً ووضوحاً. استغل Nolan و Hoytema وأفراد فريق العمل ذلك لصالحهم عبر تصوير مشاهد Portrait غاية في الروعة بعد اختبار التصوير بعرض بعض المشاهد أمام شاشة عملاقة من IMAX، وكانت النتيجة عظيمة!
سيقدم Oppenheimer أعظم تجربة بصرية شهدها إنسان في السينما!
ستعرض IMAX فيلم Oppenheimer بتقنية IMAX 70mm بينما ستعرض السينمات الأخرى الفيلم بتقنية 70mm العادية وتقنية 35mm، فما هو الفرق بين هذه التقنيات الثلاثة؟ بالنسبة لتقنية IMAX 70mm، فإنها بمقاس 15/70، فرقم 70 يشير لعرض شريط الفيلم الذي يُقدر بوحدة الملليمتر، ويشير رقم 15 لعدد ثقوب تثبيت شريط الفيلم “Perforations”، بينما تختلف عنها تقنية 70mm العادية أنها بمقاس 5/70، فيما تأتي تقنية 35mm بمقاس 4/35، ولا يوجد داعٍ لشرحهما.
قد تظن أن تقنية IMAX 70mm تتشابه كثيراً مع تقنية 70mm العادية، ولكن ثمة خدعة هنا، هل تذكر عندما قلت بأن ثقوب تثبيت تقنية IMAX تبلغ 15 بينما تبلغ 5 فقط لدى نظيرتها العادية؟ بعملية حسابية بسيطة، ستجد أن طول الصورة بتقنية IMAX 70mm يساوي ثلاثة مرات طولها بتقنية 70mm العادية، ولكي لا تُصبح الصورة طولية، تم استبدال العرض بالطول والعكس. لم تفهم بعد؟ الصورة بتقنية IMAX 70mm توازي وضع ثلاثة صور بتقنية 70mm العادية فوق بعضها البعض وتدويرهم بزاوية 90 درجة، فلك أن تتخيل فرق الحجم وكم التفاصيل بين هاتين التقنيتين!
الأغرب أنه عند المقارنة حسابياً بين تقنية IMAX 70mm وتقنية 35mm من حيث دقة الصورة، ستجد أن تقنية IMAX 70mm تقدم دقة صور تساوي عشرة مرات دقتها لدى تقنية 35mm. أما عن الدقة بالبيكسلات، فتقنية IMAX 70mm تساوي رقمياً 18,000 بيكسل أي بدقة 18K، وهذه دقة لن تستطيع تقدير مدى ارتفاعها إلا برؤيتها بأم عينيك! المميز في تقنية IMAX 70mm أنها تعرض الصور بأبعاد 1.43:1 بدلاً من أبعاد 2:39:1، وهو ما يكشف عن المزيد من المحتوى المرئي بشكل طولي، فلا مجال للحواف السوداء هنا، وهو ما أكده Nolan قائلاً:
دقة ووضوح وعمق الصورة منقطعين النظير. الأهم بالنسبة لي هو التصوير بشريط فيلم IMAX 70mm، أنت تجعل الشاشة تختفي حقاً. أنت تحصل على إحساس ثلاثي الأبعاد بدون النظارات. لديك شاشة ضخمة وأنت تملأ الرؤية المحيطية للجمهور. أنت تغمرهم داخل عالم الفيلم!
Christopher Nolan
تريد المزيد من الإبهار؟ Oppenheimer ليس الفيلم الوحيد الذي استخدم فيه Nolan هذه تقنية IMAX 70mm، بل استخدم ببعض المشاهد في أفلام أخرى أهمها The Dark Knight الصادر عام 2008، و Interstellar الصادر عام 2014، و Dunrick الصادر عام 2017، و Tenet الصادر عام 2020. جميع هذه الأفلام كلفت ميزانيات عملاقة، ويرجع ذلك للسعر الباهظ لأشرطة أفلام IMAX 70mm البالغ 1,800 دولار لمقطع مدته 3 دقائق أي بمقدار 10 دولارات للثانية الواحدة، وكل ثانية تتطلب شريطاً طوله 5.5 قدم. فيلم Oppenheimer الذي تبلغ مدته 3 ساعات يتطلب شريطاً طوله 11 ميلاً بقيمة 100 ألف دولار، مع وزن هائل ما يزيد عن 600 باوند!
لعرض فيلم Oppenheimer بتقنية IMAX 70mm، يتعين استخدام ماكينة عرض متقدمة من IMAX وتزويدها بمصابيح فائقة السطوع لتوجيهها نحو شريط الفيلم، وهذا ما توفره مصابيح Arc Lamps بقدرة 15 ألف واط لتوفير الضوء اللازم لشريط الفيلم الذي يتحرك بسرعة صاروخية تبلغ 3.5 ميل في الساعة، وكل هذا العناء لعرض الفيلم بمعدل 24 إطاراً في الثانية. للعلم، تبدأ عين الإنسان برؤية الصور المتحركة على هيئة فيديو عند معدل 24 إطاراً، ولذلك لن تجد فيلماً بمعدل إطارات أقل من ذلك.
أفضل تجربة لمشاهدة فيلم Oppenheimer من وجهة نظر Christopher Nolan:
يرى Nolan أن تقنية IMAX 70mm تقدم أفضل تجربة ممكنة لمشاهدة فيلم Oppenheimer، ولكن بما أن هذه التقنية متاحة بما لا يزيد عن 30 مكاناً حول العالم، فلا بأس مع مشاهدة الفيلم بتقنية 70mm العادية المتاحة فيما يزيد عن 100 مكان حول العالم، وهو ما علق عليه Nolan قائلاً: “الصيغتين مختلفتين نوعاً ما، وأنا أحبهما الاثنتين”. الاختلاف الجوهري بين التقنيتين هو أن تقنية IMAX تملأ الشاشة بأكملها، مما يوفر تجربة بصرية غامرة. لكن لا تقتصر روعة التجربة على هاتين التقنيتين فقط، فالتجربة ستكون عظيمة مع تقنيات العرض الأخرى، وهو ما أكده Nolan بقوله:
هذا الشيء المثير بشأن التصوير بتقنية IMAX: عندما تحولها لصيغة رقمية، أنت تتعامل مع أفضل صورة ممكنة يمكنك اكتسابها، وهو ما يُترجم بشكل رائع لصيغ أجهزة عرض جديدة مثل صيغة جهاز العرض بالليزر.
Christopher Nolan
السر في ذلك، هو أن فريق الفيلم ظل يعمل لمدة ستة أشهر لتحويل تقنية IMAX 70mm للصيغ الأخرى لتحقيق أفضل نتيجة. أما عن أفضل مقعد لمشاهدة الفيلم وفقاً لوجهة نظر Christopher Nolan الشخصية، فهو المقعد الموجود قرب مقدمة مقاعد السينما عند منتصف الصف الثالث عندما يكون في مسرح. أما عندما يكون في قاعة مزودة بشاشة IMAX بأبعاد 1.43:1، فيفضل الجلوس على المقعد خلف الصف الموجود بالمنتصف بمسافة بسيطة.