أهلًا يا صديقي، ها أنا ذا أحاول مرة أخرى أن أطرح الأسئلة التي لا يطرحها أحد، لربما تكون قد قرأت مقالي السابق حول محاولتي المتواضعة لفهم فلسفة تطوير Hideo Kojima، وها أنا أفعل الشيء نفسه مع HIDETAKA MIYAZAKI. لماذا؟ يمكنك القول بأن تجربتي مؤخرًا للعبة Elden Ring جعلتني أفكر في ما يجعل هذه الألعاب -ألعاب السولز وكل أشباهها- مشهورة لهذه الدرجة؟ وكيف وصل عقل الرجل الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم إلى تصميم لعبة بهذا التعقيد والصعوبة على حد سواء. استعد لمقال طويل مليئ بالفلسفة!
ملحوظة: كتبنا سابقًا على موقعنا مقالة تسرد لك مشوار السيد Miyazaki يمكنك الإطلاع عليها من هنا.
لعبة ICO زرعت فيّ ولعي بالألعاب، والإمكانيات التي تمتلكها هذه الصناعة
تعتبر لعبة ICO الصادرة في عام 2002 هي اللعبة التي سرقت قلب وعقل Miyazaki وجعلته مولعًا بالألعاب كصناعة، وبما تمتلكه من وعود وإمكانيات تنتظر من يحققها. لقد حركت مشاعره وجعلته معجبًا بالكثير من العناصر التي نرى التأثر بها جليًا في ألعابه. تدور أحداث لعبة ICO حول شخصتين هما Ico و Yorda واللذان يحاولان الهرب من الاحتجاز في قلعة ضخمة غامضة، ومظلمة، تمهيدًا لإعدامهما. قصة سوداوية شديدة الغموض تحث على التعاون بين شخصيتين قد يكتسبان تعاطفك دون معرفة الكثير عنهما.
انتقلت طريقة السرد هذه إلى ألعاب Miyazaki المستقبلية، وأصبح الغموض هو سيد الموقف فيما يتعلق بالسرد والأحداث، وللمتلقي مطلق الحرية لتفسير ما يحدث أمامه، وهو أسلوب سردي موجود حتى بالسينما، في أفلام مثل Enemy و No country for old men، ولكنه على الورق قد يجعل اللاعبون يظنون بأن اللعبة خالية من جانب القصة، فكيف ولماذا نجح Miyazaki في صنع ألعابًا تمتلك الملايين من المعجبين والمنظرين حول قصص العوالم التي يصنعها؟
كيف يرى Miyazaki عنصر القصة في ألعابه؟
يقول Miyazaki في حديث مطول مع جريدة The Guardian أنه ولد في أسرة فقيرة نسبيًا، وتربى على حب القراءة، وبسبب عدم القدرة المادية على شراء الكتب، كان يقوم باستعارتها من المكتبات، وهكذا انتهى به الأمر باستعارة الكتب التي كانت تفوق قدرته على الاستيعاب والتفكر، أولًا بسبب أفكارها المعقدة، وثانيًا بسبب كونها مكتوبة باللغة الإنجليزية.
أحب Miyazaki القراءة عن قصص أبطال العصور الوسطى، وجذبته قصص الفانتازيا خصوصًا تلك التي تحتوي على أبطالًا يحملون سيوفًا ويرتدون دروعًا معدنية لامعة، ويحاربون مخلوقات موحشة، هل يبدو الأمر مألوفًا لك؟
يقوم Miyazaki بأن عدم قدرته على فهم بعض ما كان يقرأه جعله غير قادر على فهم أجزاء كبيرة من أحداث القصص التي يقرأها، وبالتالي اضطر إلى استخدام مخيلته لملء هذه الفراغات.
شعرت بأنني أشترك مع الكتاب في كتابة تلك القصص، وهذا ما أردت أن أنقله للاعبين.
إنعدام المقاطع السينيمائية والحوارات، والاعتماد على السرد البيئي، أو خيال المتلقي، أو كليهما لإكمال الفراغات وخلق صورة كاملة معتمدة بشكل رئيسي على قدرتك على التخيل هي الأفكار التي يتبناها السيد Miyazaki في تقديم ألعابه وعوالمها الافتراضية الفريدة، والتي تختلف عن ألعاب بحجم The Elder Scrolls Skyrim مثلًا في إعراضها عن عرض التفاصيل.
في Skyrim، أينما تخطو ستجد الكتب والوثائق التي تقوم بسرد الكثير من الأحداث، وإعطاءك خلفية كافية عن العالم والمنطقة التي تتواجد فيها، وحتى الشخصيات الجانبية في العالم الافتراضي للعبة، ستجدهم لا يمانعون أن يقصوا عليك قصتهم كلها، وهو ما يعتبر من وجهة نظر Miyazaki خروجًا من اللعبة عن ما يجب أن تقوم به.
الخلاصة هي أن في فلسفة Miyazaki للسرد القصصي في الألعاب، البحث عن تفاصيل القصة هو دور يقع على عاتق اللاعب وليس واجبًا على اللعبة “تلقينه للاعب” ولكن هل يعتبر هذا الأسلوب حكرًا على Miyazaki فقط؟ الإجابة هي لا.
نظرية جبل الجليد: هل يمكنك تأليف قصة من ست كلمات؟
Ernest Hemingway هو كاتب وروائي أمريكي يمتلك نظرية أجدها مثيرة للإهتمام كثيرًا، وقد أُطلق عليها اسم “نظرية جبل الجليد” أو Iceberg Theory وتتلخص هذه النظرية في أن جبل الجليد دائمًا ما يظهر منه -تقريبًا- 1/8 فقط، بينما يكون سبع أثمانه (7/8) تحت الماء. ما يقصده الكاتب هنا هو أن مقابل كل شيء تقوله القصة لك، هناك سبعة أشياء أخرى لا تقولها لك، يمكنك الاختيار بين محاولة إدراكها أو إنكارها (تجاهلها). وهو ما يحدث لك أثناء قراءة رواية ما مثلًا.
يقول Hemingway في تصريح شهير له عام 1958 خلال مقابلة مع Paris Review بأن “إذا كان الكاتب جيدًا بما فيه الكفاية، يمكنه في بعض الأحيان أن يهمل ذكر بعض التفاصيل متعمدًا، وسيشعر القارئ بأنه يعرف تلك الأشياء حتى مع عدم ذكرها بشكل صريح، وإذا كان الكاتب غير مجيد لهذه النقطة، سيخلق عيبًا في قصته”. إذاً هي مخاطرة يستطيع القيام بها فقط من هم مؤهلون لذلك. يضرب Hemingway مثالًا على فكرته بقصة قصيرة من 6 كلمات:
For sale: baby shoes, never worn (للبيع، أحذية أطفال، لم ترتدى من قبل) ما الذي يمكنك فهمه من خلال هذه القصة القصيرة المكونة من ستة كلمات؟ لا يمكنك التأكد من مقصد الكاتب هنا، ولكنك تستطيع تخيل عدة أشياء، أول الاحتمالات هو أن أحدهم يعرض حذاء أطفال للبيع، وهو حذاء لم يتم استعماله. هكذا استطاعت القصة استدراجك كقارئ لاستخدام خيالك لخلق مشهد ما. كذلك تفعل معنا جميعًا ألعاب السولز، هناك دائمًا مشاهد للدمار والعذاب من حولك، من قتل هؤلاء؟ ومن أغرق تلك المدن؟ هذه الأسئلة التي تجعلك اللعبة تجيب عليها بنفسك هي عماد قصص ألعاب السولز التي عمل Miyazaki مخرجًا لها. وربما بعض الألعاب التي تأثرت بهذه المدرسة السردية كلعبة Inside و Limbo و Little Nightmares.
ماذا عن أسلوب اللعب فائق الصعوبة؟ ما القصد من وراءه؟
يقول Miyazaki في مقابلة مع مجلة Wired :
أرى أن أسلوب اللعب هو العنصر الذي يملي على كل شيء آخر في اللعبة، فلسفتي هي أن أصنع آلية اللعب التي أريدها، ومن ثم أصمم العالم بكامله حولها.
يمكنك الافتراض أن في ألعاب السولز، الغرض الأساسي هو إعادة فكرة الصعوبة في الألعاب، كعنصر أساسي وحجر أساس. هذه المدرسة القديمة من الألعاب التي قدمت لك مساعدات قليلة، وتحديات صعبة كانت على وشك الانقراض لولا Demon Souls ومن بعدها سلسلة Dark Souls. هنا يمكنك استنتاج أهمية فكرة الموت والحياة ومحوريتها لبناء أسلوب اللعب كاملًا. هناك الكثير من العناصر التي تزيد من التحدي وتدفعك لتوخي الحذر أثناء القيام بكل شيء في اللعبة.
عند الموت، تفقد كل أدواتك التي تعبت حتى تحصل عليها، وتبقى في المكان الذي مت فيه حتى تعود مرة أخرى للمكان نفسه وتلتقطها. وكأن هذه الألعاب تريدك أن تصارع على البقاء بكل ما تمتلكه من قوة، وتجعلك تشعر أن العودة للحياة مرة أخرى هي فرصة جديدة يمكنك من خلالها العمل على عدم تكرار أخطاءك، أو التعلم منها. نموذج Trial And Error الذي نتمنى لو كان موجودًا في حياتنا الواقعية.
تأثر Miyazaki بالحياة الواقعية واستعانته بالرمزيات بشكل واضح يظهر في بعض ميكانكيات اللعبة، مثل إمكانية استعادة اللاعبين الآخرين في بعض الأحيان لمساعدتك، والذي صرح Miyazaki حوله قائلًا:
هذه الآلية مستوحاه من موقف حصل لي في حياتي الواقعية، عندما تعطلت سيارتي على طريق مائل للأعلى، جاء بعض الغرباء لمساعدتي حتى عادت سياراتي للعمل، ثم اختفوا فجأة، لم أستطع شكر من ساعدوني، ولكني تخيلت أننا يمكن أن نكون أصدقاء لو التقينا، أو نتعارك! هذه اللحظة كانت لحظة تعاون للصالح العام.
يقول الكاتب Jasper Juul في كتابة The Art of Failure بأن الألعاب ما هي إلا فن وليد لولع وإعجاب البشر بفكرة المحاولة باستمرار للوصول لهدف محدد. لا شك أن هناك من يستمتع بكثرة وجود تحد ما يتطلب مهارة عالية لاجتيازه، ولكن فكرة أن تقوم صناعة كاملة على هذا هي فكرة مجنونة بعض الشيء.
يقول Jasper أيضًا بأن تعابيير السعادة نادرًا ما تكون التعابير التي تعتلي وجوهنا أثناء اللعب، عوضًا عن ذلك نصيح ونغضب بسبب خسارتنا المستمرة. يفترض Jasper أن للاعبين يستمتعون بشعور عدم الارتياح الذي تخلقه لهم الألعاب، وبالتالي إجبارهم على التفكير في طريقة للخروج بها من المأزق، والفوز والانتقال للمرحلة التالية. شعور الإنجاز المستمر الناتج عن هذه العملية يصبح إدمانيًا بعد فترة لأنك تذوقت مرار الهزيمة مرارًا وتكرارًا أمام ذات التحدي، وهو ما يتوافق مع طبيعة الإنسان المحبة للإنجاز (GIT GUD يا صديقي)!
هل فكرت يومًا بأن أعمال Myazaki قد تكون وصف لحياته؟ أو على الأقل وصف للإنسان بكينونته!
يقول بعض المنظرين (أصحاب النظريات) بأن ألعاب السولز بفلسفتها التصميمية الحالية هي مجرد صورة مستعارة لقصة حياة Hidetaka Miyazaki نفسه، لقد واجه صعوبات كثيرة في حياته، وضحى بوظيفته في شركة Oracle براتب كان يتمناه كثيرون، ليتفرغ لتطوير الألعاب، ولم تكن سنواته الأولى بالنجاح المرجو. أؤمن كثيرًا بأن كل شخص يظهر جوانب من شخصيته من خلال جودة وطريقة عمله، خصوصًا لو كان كاتبًا أو مخرجًا، سواء سينيمائيًا أو في الألعاب. تظهر فكرة المحاولات المستمرة ولذة النصر في ألعاب السولز في مستوى الصعوبة.
ألعاب السولز تعود بعنصر الصعوبة ليكون جوهر تجربتها، في زمن انتشرت فيه الألعاب التي تعطيك تجارب سهلة، واختيارات صعوبة، منها الذي يضمن لك تجربة قصصية فقط ويرفع عنك تمامًا تحدي المعارك. في ألعاب السولز، لا صوت يعلو فوق صوت الإصرار على اجتياز “الصعاب” ولربما هو الدرس الأعظم الذي قد تخرج به من تلك الألعاب، أن المثابرة هي مفتاح النجاح، تمامًا كما تعلم Miyazaki .
ماذا يريد Hidetaka Myazaki ؟
بالعودة إلى السؤال بعنوان المقالة، يريد السيد Miyazaki صنع ألعاب تتحدى اللاعب بشكل صارم، تعاقبه على أخطائه تمامًا مثل الحياة، وتكافئه على المحاولة والمثابرة المستمرة، والسعي للتعلم من أخطائه. يريد أيضًا من اللاعبين تقدير حياتهم بشكل كبير، وربما أيضًا حثهم على عدم التفريط فيها! لا شك أن السيد Hidetaka Miyazaki رجل غامض، ولكن الأكيد هو أن الألعاب التي صنعها نجحت في نقل رؤيته الفريدة لجوانب السرد القصصي، وأسلوب اللعب، ونقل فكرة “السرد البيئي” إلى مستويات غير مسبوقة، خصوصًا مع لعبة Elden Ring!