لطالما كانت ألعاب الفيديو المكان الذي يلجأ إليه الكثيرون هربًا من متاعب الحياة ومصاعبها، بحثًا عن مساحة افتراضية آمنة مفصولة عن الواقع، حيث لست مضطرًا للالتزام بواجبات المنزل أو للتعامل مع حماقات أحدهم، حيث لا تتعرض إلى أي مما تتعرض إليه في حياتك اليومية، الحياة التي تسعى إلى الابتعاد عنها لبعض الوقت عند قصد ألعاب الفيديو.
دائمًا ما اعتدنا على ألعاب الفيديو على هذه الشاكلة، وجميع الأطراف راضية بما تحصل عليه: المطور والناشر، وأخيرًا اللاعب، جميعهم يعملون بشكل رائع في دائرة المنتِج والمستهلِك دون أن يتضرر أحدهم، وحتى المستثمرين يحققون أرباحًا، في صناعة هي الأضخم حاليًا. لكنها الطبيعة البشرية الدنيئة عزيزي القارئ، أن تطمع، بجانب أن تطمح، للمزيد دائمًا!
مؤخرًا انتشرت شائعات عن تخطيط “سوني” وربما “ميكروسوفت” أيضًا، لتضمين إعلانات تجارية داخل ألعابها في الفترة المقبلة، دون تفاصيل عن طبيعة تلك الإعلانات وطريقة عرضها، ولكن مع وجود تقارير تلمح إلى إصدار الألعاب مجانًا وتحصيل أرباحها من قيمة الإعلانات، خصوصًا بعد نجاح هذا النموذج في ألعاب الهاتف، حيث أنه حسب أحد التقارير، حققت سوق ألعاب الهاتف أرباحًا تُقدر بـ 73 ملليار دولار تقريبًا في عام 2020 فقط، بينما حققت سوق ألعاب الكونسول 1.8 ملليار فقط. ألعاب الهاتف التي تصدر جميعها تقريبًا مجانية، مع تضمين الإعلانات فيها.
إعلانات تجارية في الألعاب: ليست المرة الأولى
ربما قد تبدو هذه الكلمات مفاجئة للبعض، ولكن الإعلانات التجارية سبق وتواجدت في ألعاب الفيديو، ولكن بالشكل الذي قد تدعوه “إعلانات” حقًا، فالأمر برمته لم يكن بطريقة مباشرة، ولم يتم الإعلان مسبقًا عن تضمين إعلانات في تلك الألعاب، أي أن تلك الإعلانات لم تكن ركيزة هامة يُعتمد عليها في أرباح اللعبة.
لعلك لا تدرك ذلك، ولكن شخصيات (مارفل)، وشخصيات الأفلام والألعاب المختلفة التي تُضاف إلى (فورتنايت) مثلًا ومؤخرًا (Call of Duty)، تُعد إعلانات وترويج لها، ولكن ما هي إلا عناصر تجميلية وأزياء إضافية، ليست إعلانات بالمعنى المتعارف عليه. هناك أيضًا الإعلانات التي توجد على اللوحات في مباريات كرة القدم في FIFA، أو مباريات كرة السلة في NBA 2K، كلها تُعد عناصر واقعية في الأساس ضمن التجربة، لأن تلك المبارايات في الحياة الواقعية تتضمن إعلانات بالكيفية ذاتها، كما أن تلك الألعاب تصدر بسعرها الكامل دون التعويل على أرباح تلك الإعلانات، وهو ما قد يكون مختلفًا حول نموذج الإعلانات الذي نتحدث عنه اليوم.
إذًا، ما الجديد هذه المرة؟
في السابق كان نظام الإعلانات بدائيًا إذا قارنَّاه بالوضع الحالي، فكانت الألعاب القليلة التي تتضمن إعلانات تصدر بالإعلانات ذاتها دون تغيير فيها من مكان لآخر، فاللاعب في أوروبا كان يرى نفس الإعلانات التي يراها اللاعب في جنوب أفريقيا، دون وضع احتياج ذلك اللاعب إلى هذا المنتج في الاعتبار، أو حتى توافره في منطقته، وبالتالي لم تتطلب اللعبة الوصول إلى صلاحيات إضافية وجمع المزيد من المعلومات عن اللاعب، فلا توجد سوى إعلانات محددة سيراها اللاعب أيًا كانت احتياجاته أو مكان سكنه.
الآن، ومع وجود خوارزميات الإعلانات المتقدمة والمزعجة في بعض الأحيان، غالبًا ستجد الإعلانات التي تظهر لك هي لمنتجات أنت تبحث عنها بالفعل، والتي تظهر نتيجة للمعلومات التي تجمعها المنصة عنك وعن نشاطاتك الإلكترونية مؤخرًا. هذا النوع من الصلاحيات ليس متوفرًا حاليًا لمنصات الألعاب -على حد علمنا على الأقل- لعدم ضروريتها، فلماذا قد يريد البلايستيشن الخاص بك مثلًا معرفة تاريخ بحثك وأنشطتك على الإنترنت؟
هذا النموذج يُعرف بالإعلان الإلكتروني القائم على الخوارزميات، وهو أكثر نماذج الإعلانات رواجًا وفعالية في عصرنا، كما أنه غالبًا ما يتطلب الاتصال الدائم بالإنترنت، فهل إذا تم اعتماده في الألعاب الجديدة ستتطلب تلك الألعاب الاتصال بالإنترنت دائمًا، حتى في الألعاب الفردية؟ أم هل سيتم تطوير خوارزميات جديدة مناسبة أكثر؟ هل ستؤثر تلك الخوارزميات على أداء اللعبة عند تضمينها في الكود البرمجي لها؟ جميعها أسئلة لا تزال إجاباتها مبهمة، ولكنها بالتأكيد تجعلنا مترقبين لما سيحدث في الأيام القادمة بخصوص هذا الصدد.
الأمر الأكيد هو أن اللاعبين لن يكونوا متسامحين إطلاقًا مع هذا الأمر إذا ما تم إساءة استغلاله، فرأينا كيف كان رد فعل اللاعبين عند إضافة إعلانات لا يمكن تخطيها في لعبة NBA 2K21، اللعبة التي كلفت 60 دولار كاملة! الأمر الذي أجبر اللعبة على إزالتها ونشر اعتذار على حسابها الرسمي، بعد غضب اللاعبين وهجومهم الواسع.
كيف ستكون الألعاب في وجود الإعلانات الإلكترونية؟
تخيل معي أنك تحارب أحد الزعماء في The Witcher 3 مثلًا مع موسيقى ملحمية وأجواء رائعة، أو تمر بلحظة درامية مؤثرة في Red Dead Redemption 2، ثم فجأة يظهر لك إعلان مدته 5 ثوانٍ وربما أكثر، أو تخيل أنك تتجول في عالم Guardians Of The Galaxy وتستكشف المناظر الخلابة لكوكب ما، ثم تجد إعلانات لمنتج ما معلقة على الجدران، فهي لا تزال عامل تشتيت هائل ومدمر للتجربة. ليس ذلك فقط، بل أن مثل هذه النماذج من الإعلانات، والتي غالبًا ما ستتبع الخوارزميات وتعرض لك ما تهتم به، تقضي على أهم أسباب نجاح ألعاب الفيديو وانتشارها في المقام الأول، وهو الحصول على مساحة منفصلة عن العالم الواقعي لبعض الوقت! فهي -حرفيًا- تجلب إليك عناصر مختلفة من العالم الواقعي، ولا تسمح لك بالحصول على بعض الوقت المستقطع من كل هذه الإعلانات التي أصبحت في كل مكان حولنا أصلًا.
إذا صحت الشائعات حول إصدار الألعاب مجانًا أو خفض سعرها، مقابل تضمين الإعلانات التجارية فيها، فعلى الأرجح أن هذه الإعلانات ستشغل حيزًا ليس بقليل من مساحة اللعب، وستؤثر بكل تأكيد على التجربة، فالشركة لن تطلق لعبتها مجانًا أو بأسعار مخفضة، كما هو الحال في ألعاب الهاتف، وتتركها دون تحصيل الأرباح المنتظرة منها.
أقرب ما لدينا حاليًا من ألعاب متعلقة بهذا الشأن، هي لعبة Alan Wake الأصلية، والتي صدرت في 2010 وشهدت تواجد الكثير من العلامات التجارية من الحياة الواقعية بأسمائها الحقيقية داخل اللعبة، مثل Ford و Energizer وغيرهما، والتي على الرغم من عدم كونها إعلانات مفروضة يُجبَر اللاعب على التعرض لها، وإنما كانت تعزز واقعية عالم اللعبة، إلا أن الكثيرين اعتراهم الغضب واعترضوا على هذه الخطوة شاعرين أنه يتم استغلالهم بطريقة ما. هذا على الرغم من كون تلك العلامات التجارية مناسبة تمامًا لمكانها، فكنت تجد بطاريات الكشاف من نوع Energizer، البطاريات التي حجمها في اللعبة صغير أصلًا ولا يمكن ملاحظة علامتها التجارية سوى عند التدقيق فيها، وهكذا فيما يتعلق بالعلامات التجارية الأخرى، فكيف سيكون رد فعل مجتمع اللاعبين إذا تم التعدي على مساحتهم الخاصة في الألعاب بإعلانات تشغل مساحات أكبر، أو تتبع خوارزميات ما وتتطلب صلاحيات أكثر؟
أأصبحت ألعاب الفيديو الأداة المثالية لتحقيق مبتغى أحدهم على حساب جودة التجربة؟
إذًا بعدما عرفت الأجندات السياسية طريقها إلى ألعاب الفيديو وظهر تأثيرها السلبي على التجربة، وخير دليل يظهر في لعبة The Last Of Us Part 2، التتمة لواحدة من أغنى الألعاب قصصيًا وأكثرها تأثيرًا في اللاعبين، خرجت إلينا بقصة فقيرة ساذجة. حتى إذا تقبلنا تلك الأجندة في اللعبة ووضعناها جانبًا -وهو مستحيل بالمناسبة-، لا تزال القصة ضعيفة للغاية، وبالتأكيد في عالم The Last Of Us الغني بالأمور المثيرة للاهتمام، كان ممكنًا الإتيان بقصة لا تقل روعةً عن قصة الجزء الأول من السلسلة.
الآن نحن أمام تضمين محتمل للإعلانات التجارية بشكل مشابه لما في ألعاب الهاتف، فكيف ستؤثر حقًا هذه الخطوة على صناعة ألعاب الفيديو -وبالأخص الألعاب القصصية العميقة- التي لا تعيش أفضل أيامها في الأساس، بين ألعاب تصدر قبل جاهزيتها بسبب ضغط المستمثرين وجشعهم، وألعاب أخرى لا يأبه المطورون بشأن جودتها النهائية بقدر اهتمامهم بالأرباح والعوائد المادية، والسعي لتضمين عناصر الـ NFT والتربح منها ماديًا في الألعاب، والكثير من العوامل التي تجعل التجربة الخاصة بألعاب الفيديو تختلف عما كانت عليه سابقًا، بشكل تدريجي، بشكل مخيف.