مقالات

ماذا يريد Hideo Kojima؟ محاولة لفهم فلسفة تصميم واحد من أفضل مخرجي الألعاب

منذ أيام أنتهيت من تجربتي للعبة Death Stranding والتي كنت أنوي الكتابة عنها، ونقل تفاصيل تجربتي لمتابعي موقع Games Mix ولكني عوضًا عن ذلك وجدتني تائهًا هائمًا في ملكوت واسع من الأسئلة الوجودية، مثل “ما معنى هذه النهاية؟” ماذا حدث لهذه الشخصيات التي ظهرت في منتصف عمر اللعبة وكأنها شخصيات مهمة، ثم اختفت في سراب الحيرة الذي تتركك اللعبة فيه. لقد كنت أريد أن أعرف شيئًا واحدًا، وهو “هو Hideo Kojima ده عايز مننا إيه؟”

وجدت أنه من باب أولى الحديث عن ذلك الرجل الذي أنتج وأخرج لعبتين من أعقد الألعاب قصصيًا في التاريخ وهما Death Stranding، و Metal Gear Solid. فماذا يريد هيديو كوجيما، نحاول في مقال اليوم قراءة وفهم أفكار ذلك الرجل المُبدع، ولربما يقودنا ذلك معًا إلى فهم أعمق لألعابه القادمة، هيا بنا!

استوديو Hideo Kojima الجديد يطلق العنان لإبداعه، تحت شعار”From Sapiens to Ludens”

KOJIMA PRODUCTIONS | LinkedIn

في 2015 أعلن Hideo Kojima عن تأسيس الاستوديو الخاص به “Kojima Productions” وبعد ذلك بعام أصدر بيانًا رسميًا شرح فيه سبب اختيار الشعار الخاص بالاستوديو، والذي يظهر خوذة متطورة من نوع ما. الصورة الكاملة أظهرت إنسانًا يرتدي بدلة متطورة، ويمسك بعلم الاستوديو.

عندما تم سؤال Hideo Kojima عن معنى هذه الصورة، صرح بأنه “سيقدم اللعب الجديد في العصر الجديد” وهي مقولة مبهمة لا توضح أي شيء للمُتلقي العادي، وأعتقد أن هذا ما يريده Kojima. دفعنا نحو الاستكشاف والبحث حول الألغاز التي يضعها في طريقنا دومًا.

ما الذي تعنيه جملة “From Sapiens to Ludens”؟

لكي نعرف بالضبط معنى هذه الجملة، علينا العودة إلى أصل كلمة Ludens، ومعناها. في عام 1938 نشر المؤرخ والباحث Johan Huizinga كتابًا تحت عنوان Homo Ludens يتحدث فيه عن طبيعة البشر وتحليله الشخصي لمسمى “بشر”.

Are we Homo Ludens? Huizinga's 5-point definition of play.

كلمة Ludens هي كلمة لاتينية لا تمتلك مثيل مباشر لها في أي لغة أخرى، ترجمتها الحرفية تعني “اللاعبون” ولكنها لا تشير إلى اللعب بالصورة التي نعرفها اليوم. يُصنف الكاتب Johan Huizinga اللعب كونه أي نشاط نقوم به في الحياة. التفاعلات بين البشر وبعضهم، والاكتشافات العلمية، وتأسيس النظم الاقتصادية والسياسية هو لعب من وجهة نظر فلسفية تبناها Huizinga، ويعتقد أيضًا أن “اللعب” بمفهومه الجديد الذي قدمه في كتابة في فصول طويلة هو السمة الأساسية للإنسان والتي تساعده على التقدم والتعلم، وأن اللعب ليس فقط بغرض المتعة دائمًا، بل هو لغرض دفع البشرية للأمام. يعتبر Huizinga اللعب غريزة من غرائز الكائن البشري البدائية، والتي لا يستطيع إخفاءها أو التهرب منها مهما حاول.

بالعودة إلى ما كان يقصده كوجيما بفكرة THE NEW PLAY in THE NEW FUTURE، يمكننا استنباط مدى إيمان Hideo Kojima الشخصي بأن ألعاب الفيديو أسمى من كونها مجرد أداة للترفيه، بل أنه بإمكانها أن تصبح أكثر من ذلك بكثير، ولذلك لن تجد أي لعبة ضمن الألعاب التي عمل عليها كوجيما تقدم أشياءًا تقليدية، وسنتحدث عن ذلك أكثر في السطور القادمة، ولكن أولًا كان علينا شرح مفهوم كوجيما عن الألعاب و السبب وراء شعار الاستوديو الذي أسسه.

كيف تسببت رؤية Hideo Kojima في مولد تصنيف “ألعاب التخفي”؟

في عام 2009، ألقى Hideo Kojima كلمة مطولة في مؤتمر GDC (مؤتمر مطوري الألعاب) وهو حدث سنوي يتحدث فيه المطورون عن ألعاب. في ذلك الخطاب شرح Kojima الكثير من الأشياء التي تبرر أفعاله دائمًا، وخياراته التصميمية حتى تلك التي انتقدها اللاعبون.

تعتبر هذه الكلمة التي ألقاها هي مفتاح فهمنا لطريقة تفكيره، وأعتقد أن الكثيرين ممن اهتموا حديثًا بأعمال كوجيما-وأنا منهم- لم يعرفوا الكثير حول ذلك اليوم الذي شرح فيه كوجيما بالتفصيل فلسفة تطويره للألعاب.

تحدث كوجيما عن فلسفته في تصميم الألعاب واصفًا إياها في جملة “Making The Impossible Possible” أو جعل المستحيل ممكنًا، وهو ما يؤثر على الطرفين في عملية صناعة الألعاب. المطور (كوجيما)، والمتلقي (اللاعب). استشهد بعد ذلك بالوقت الذي طٌلب منه القيام بتصميم لعبة أكشن لمنصة MSX 2 التي كانت توفر عتادًا لا يسمح بتقديم عمل تقني كبير، لم يكن يسمح لتطوير لعبة ضخمة تحاكي الأفلام السينيمائية في ذلك الوقت.

يقول كوجيما “أحد أكبر التحديات التي واجهتنا هي كيفية تضمين عدد كبير من الشخصيات في وقت واحد على الشاشة مع الوضع في عين الاعتبار الإمكانيات التقنية المحدودة للجهاز، قررنا ألا نفعل ذلك، وأن نجعل اللعبة تعتمد على التسلل والتخفي، وبذلك قمنا بتقديم تبريرًا منطقيًا لتقديم عدد قليل من الأعداء على الشاشة في آن واحد. كان هذا القرار هو الخطوة الأولى في تأسيس تصنيف ألعاب التخفي! (يمكنك مشاهدة كلمة كوجيما في GDC 2009 كاملة من هنا)

بالعودة لفكرة “جعل المستحيل ممكنًا” ولكن هذه المرة من منظور اللاعب. تدور فكرة لعبة Death Stranding كاملةً تقريبًا حول هذا المفهوم. ولكن قبل شرح ما حاولت Death stranding تقديمه، علي أن أوضح لك الفكرة، عن طريق الاستشهاد بكلام كوجيما نفسه حين شبه الأمر بوجود حائط لا يمكنك تسلقه بسبب عدم توفير اللعبة آلية التسلق، ولكنها تطلب منك في الوقت نفسه العبور للناحية الأخرى. سيكون عليك إذًا البحث عن طريقة لفعل ذلك، وتفكيرك الأول سيكون -منطقيًا- في الدوران من خلف ذلك الحائط.

Hideo Kojima

يمثل ذلك الحائط الكثير من الأشياء، التحديات التقنية والتصميمية في الألعاب. فلنقل مثلًا عندما يُطلب منك فتح باب ما في لعبة Resident Evil Village، ولكنه مغلق بسلاسل من حديد تحتاج إلى أداة معينة لقطعها. حينها تتحول مهمتك بشكل مؤقت من “الاتجاه نحو الباب لفتحه”، إلى “البحث عن الأداة التي ستفتح بها الباب” أو البحث عن مدخل آخر للمكان نفسه. بهذا الشكل يكون الاستنتاج أن اللعبة تعطيك الأدوات التي لك مطلق الحرية في توظيفها بالشكل والترتيب الذي تراه مناسبًا، للوصول للهدف نفسه.

يمكننا إعادة صياغة الجملة الأخيرة قائلين أنه لا يهم أي الطرق ستسلك، بل ما يهم هو وصولك للهدف في النهاية. هذه هي فلسفة Hideo Kojima بشكل عام في ألعابه، وهي أكثر العناصر سيطرةً على كل أركان لعبته الأخيرة Death Stranding.

كيف نجح Hideo Kojima في تقديم أفكارًا غير مسبوقة؟

إذا كان ابتكاره لتصنيف ألعاب التسلل ليس كافيًا لك عزيزي القارئ، يمكنني ذكر المزيد من الأمثلة حول ما فعله Hideo Kojima من أفكار غريبة سابقة لعصرها.

1- في لعبة Metal Gear Solid الأولى تكون أمام مواجهة شخصية Psycho Mantis (زعيم) والذي يستطيع قراءة أفكارك وتفادي ضرباتك كلها، ولن تتغلب عليه سوى عن طريق تبديل مدخل يد التحكم التي تستخدمها (Port/Slot) من 1 إلى 2، وقتها سيفشل Mantis في قراءة أفكارك، وبالتالي تستطيع الدخول معه في معركة متكافئة!

Hideo Kojima

2- في الجزء الأول من Metal gear Solid يُطلب منك استخدام الرقم المكتوب على مؤخرة علبة الأسطوانة، وبالطبع إذا كنت قد حصلت على اللعبة بشكل غير قانوني سيكون عليك تجربة كل الأرقام الممكنة! وهو أمر يفسد عليك التجربة تقريبًا.

Hideo Kojima

3- في لعبة Boktai: The Sun Is in Your Hand امتلك شريط اللعبة حساس ضوئي (Light Sensor) يُمكنه الشعور بكثافة الضوء، إذ تشجعك اللعبة على اللعب في ضوء الشمس لتجنب نوع مصاصي الدماء من الأعداء، والذي لا يستطيع الظهور في الشمس. إذا تعذر ذلك تتغير اللعبة كثيرًا عن طريق وضعك في مواجهات مع تلك المخلوقات التي بالتبعية تتطلب منك أسلوب لعب مختلف. هذا الدمج بين الواقعية واللعب، وإلغاء الحد الفاصل بين عالم اللعبة والعالم الواقعي يعتبر هو فكرة كوجيما الأكثر ذكاءًا، وإبداعًا خصوصًا عندما تعرف أنها كانت على منصة Game Boy Advance الصادر في 2001. يقول Kojima في مقابلة مع   shmuplations.com أنه أراد تضمين حساس لرصد رائحة فم اللاعبين!! وقال الآتي:

أعداؤك هم مصاصي الدماء أليس كذلك؟ إذا تناولت شيء به “ثوم” وتنفست باتجاه جهازك أثناء اللعب سيموتون (يضحك)

Hideo Kojima

4- في لعبة Death Stranding يقوم اللاعبون بنناء الجسور ووضع السلالم والتي يمكنك استخدامها إذا ما كنت متصلًا بالشبكة، وبالتالي يمكنك عبور تضاريس الخريطة الواعرة، عن طريق استخدام أداة وضعها لك لاعب آخر. تعتمد تلك الآلية على وضع اللاعبين لأدوات مفيدة في الطريق، و”اتحادهم معًا” للتغلب على الصعاب، وجعل المستحيل ممكنًا، لكن ماذا لو وضع اللاعبون أدوات لا قيمة لها في طريقك؟ تعاقب اللعبة لاعبيها بمبدأ السيئة تعم، وتصبح آلية اللعب هذه نقمة على اللاعبين إذا ما قرر المجتمع عدم التكاتف ومساعدة بعضه البعض. تحصل أيضًا على Likes وDislikes بناءًا على أداءك في وضع الأدوات المفيدة في الأماكن التي تحتاج إلى ذلك، وهو ما يسمى Social Stranding System. لقد قدم كوجيما ذلك النظام كونه “يدشن تصنيفًا جديدًا في الألعاب” فهل بالفعل هو بكل هذه الفاعلية؟

Hideo Kojima

إذًا، ماذا يريد Hideo Kojima وهل نجحت Death Stranding في تقديمه؟

لا يمكننا تحليل مدى نجاح Death stranding في تقديم رؤية Kojima في فقرة واحدة، بل تحتاج إلى مقال كامل، ولكن بشكل عام نجاح اللعبة يُقاس عن طريق عنصرين لا ثالث لهما. استقبال الجماهير لها، سواء كنت ستأخذ تقييمات النقاد كعلامة على ذلك، أو شعبية اللعبة بعد سنوات من إطلاقها، والعنصر الثاني هو حجم مبيعات اللعبة.

أما عن حجم المبيعات، فإذا راقبت تقارير سوني المالية عن كثب ستلاحظ أن مبيعات Death Stranding هي الرقم الوحيد الذي ترفض سوني الإفصاح عنه حتى الآن، وأما عن آراء النقاد، فهناك تضارب كبير بين مختلف أنواع اللاعبين، ببساطة لأن اللعبة ليست للجميع. لا أعلم لماذا لا يتقبل الناس أن الألعاب تخضع لسياسة “الأذواق” التي قد تجعل لعبتي المفضلة لعبة لا تقوى أنت على قضاء ساعتين معها.

Death Stranding Director's Cut - PS5 Games | PlayStation

بشكل عام، Kojima لا يستغنى كثيرًا عن أفكاره، ولقد كان من الخطأ أن تتوقع منه الجماهير لعبة “جماهيرية” يعشقها كل من يلعبها مثل Red dead redemption مثلًا. لأن كوجيما سيبقى كوجيما، يريد دائمًا دفع صناعة الألعاب إلى الأمام، ويفخر بخلفيته الفكرية، والمتأثرة كثيرًا بالسينما الأمريكية، وبالتالي يمكنني أن أضمن لك أن يقدم Hideo Kojima ألعابًا سينيمائية ما حيا. ولكن لا يمكنني أن أضمن لك توقفه عن تقديم الأفكار الغريبة.

في النهاية، ربما تكون هذه العقلية المٌعقدة للمخرج الشهير Hideo Kojima هي هبة من الله له، أو نقمة عليه، ويعتمد ذلك على أعماله القادمة، إذ أنه لا يزال باحثًا عن أول عنوان يحقق نجاحًا ساحقًا بعد خروجه من كونامي.

The Lesson Learned From Icarus - Go7 Blog

حين أفكر في مشاريع Hideo Kojima القادمة أتذكر قصة إيكاروس أحد الشخصيات الأسطورية اليونانية، والذي طلب من والده الذي يعمل حرفيًا (دايدالوس) بناء أجنحة لكليهما ليستخدماها في الهرب من المنفى، وقام دايدالوس بذلك بالفعل مطاوعة لإبنه باستخدام الريش والشمع، وحذر إيكاروس من التحليق عاليًا قريبًا من الشمس، وإلا احترقت الأجنحة، ولكن للأسف تجاهل إيكاروس لهذه النصيحة وكانت رغبته في التحليق عاليًا، سببًا أدى به إلى هلاكة! كم لا أتمنى ذلك لك يا سيد Hideo Kojima!

Mostafa Argoun

رئيس التحرير ومدير المحتوى بالموقع،أحب ألعاب الفيديو منذ زمن بعيد، وأول لعبة قمت بتجربتها كانت لعبة فيلم هرقل (Hercules) علي الحاسب الشخصي. أحب ألعاب الRPG وخصوصًأ التي تهتم بالقصة وتفرعاتها، ولا مانع من ألعاب اللعب الجماعي التي تقدم شيئًا جديدًا، وتحترم وقت اللاعبين. أعمل في صحافة الألعاب منذ عام 2012 وأحب الكتابة كهواية جانبية.
زر الذهاب إلى الأعلى