لا أتذكر آخر مرة نعمت فيها بليلة هادئة ونومٍ عميق، إنه ذلك الكابوس مجددًا، أجد نفسي جالسًا على مكتبي في حالة مزرية، الباب يطرق بشكل عنيف وأسمع شخصًا يصيح “أحضر لنا الفتاة لتسدد ديونك”، ولكن أي فتاة؟ الغريب أنه ليس كأي كابوس آخر، بل أشعر وكأنه أقرب ليكون ذكريات مبهمة من كونه تخاريف من نتاج عقلي المتهالك. على كلٍ، منذ وفاة زوجتي لم يعد عقلي متزنًا، ولكن شيئًا ما يخبرني بأن ثمة خطر محدق.
هكذا تقدم BioShock Infinite نفسها، تأخذ بيدك لتجربة لن تنساها. هي الجزء الثالث من ثلاثية BioShock الأيقونية، وهي من الألعاب القليلة التي تنجح في تحقيق المعادلة الصعبة بالجمع بين أسلوب لعب خرافي وقصة لا تُنسى. هي بالفعل تجربة متكاملة، ولكن ما الذي يجعلها هكذا تحديدًا؟ ما الذي يجعل من BioShock Infinite تحفة منسية؟
قصة سينمائية بامتياز، بحبكات صادمة كما عوّدتنا سلسلة BioShock
تقع الأحداث في عام 1912، في مدينة كولومبيا الخيالية الطائرة فوق السحاب، المدينة المتدينة التي يحكمها المرشد “The Prophet” المعروف بـ Comstock، والذي يتبعه المواطنون ويعتبرونه طريقهم للخلاص الأبدي، وأنه ممثل ربهم في الأرض.
أنت تلعب كـ Booker DeWitt، بطل حرب سابقًا، محقق مستقل حاليًا، حيث تبدأ اللعبة وهو في طريقه لمدينة كولومبيا لإكمال مهمة ما، حيث عليه العثور على فتاة تُدعى Elizabeth وإحضارها لمدينة New York، من أجل أن يسدد ديونه المتراكمة عليه.
في البداية ستظن القصة متوسطة، من نوعية المطاردة وراء هدف ما بينما تتخطى عقبات مختلفة، أهمها أن الجميع يحاول قتلك، ولكن بطل القصة دائمًا ما ينجو ويجد الحل لأخذ الخطوة التالية، وتلك هي القصة، خصوصًا وأنها لعبة تصويب في الأساس وليست لعبة قصصية. هكذا شعرتُ في البدايات، حتى أتت تلك اللحظة التي أذهلتني وأردكت أنه “لا، ده الحوار كبير!”.
منذ تلك اللحظة -والتي لا تأتي متأخرةً بالمناسبة- لم أستطع التوقف عن اللعب، زاد الفضول وارتفع سقف توقعاتي، فهي إحدى تلك القصص التي تطرح العديد من الأسئلة والأمور الغامضة على اللاعب منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية، وهو سلاح ذو حدين، فإما أن تنكشف التفسيرات وراء كل هذا الغموض نحو النهاية بطريقة منطقية على الأقل، وإما أن تكون التفسيرات سيئة غير مرضية أو لا تكون كافيةً أصلًا.
لحسن الحظ أن BioShock Infinite لديها إحدى أقوى القصص في عالم الألعاب، مدعومة بأسس منطقية نسبيًا وتفسيرات مرضية لما لدى القصة لتعرضه، خصوصًا وأنها تتناول موضوعًا شائكًا تحيط به المغالطات المنطقية.
عناصر السرد: قدر روعتها على قدر بساطتها
من نقاط القوة في قصة BioShock Infinite أنها تضعك في خضم الأحداث مباشرةً، دون مقدمات طويلة أو حتى خطة واضحة لما عليك فعله بالضبط، فكل ما تعرفه أنك ذاهب إلى مكان لا تعرف عنه شيئًا، للعثور على فتاة ما وإحضارها لشخصٍ ما.
تستمر القصة على هذه الوتيرة لمعظم أحداثها، فكيف أخبر المطورون قصتهم في هذه الظروف دون التأثير على متعة أسلوب اللعب؟ فلا ننسى أنها لعبة تصويب في المقام الأول.
الإجابة ليست في المشاهد السينمائية، بل في توظيف البيئة بأفضل شكل ممكن لحكاية قصة العالم الذي يُوضع فيه اللاعب دون مقدمات. بين الملصقات المعلقة في أرجاء المدينة، التصريحات التي تُذاع عبر مكبرات الصوت، ووصولًا إلى العنصر الأقوى: التسجيلات الصوتية.
كلما تقدمت في قصة BioShock Infinite أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا وغموضًا، ولكن إذا لم تكن لديك بعض المعلومات الأساسية عن العالم من حولك، قد لا تتقبل التفسيرات لذلك الغموض في النهاية، وهنا تأتي أهمية التسجيلات الصوتية التي تطلي عالم اللعبة بالمصداقية، فمثلًا لن تعرف كيف تطير المدينة إلا بالاستماع إلى إحدى التسجيلات الصوتية. الخلفية القصصية المبهمة لشخصية Comstock مثلًا، كونه لا يظهر كثيرًا خلال أحداث القصة، تصبح أوضح عند الاستماع لبعض التسجيلات الصوتية التي يمر بها اللاعب، وهكذا من الأمور التي تجعل من بيئة اللعبة أكثر واقعية.
باختصار، روعة الجانب القصصي هنا تتجلى في أن اللعبة ليست بحاجة لمشاهد سينمائية فاخرة أو مقدمات مطولة، بل ستحصل على تجربة سينمائية من الطراز الرفيع بينما تلعب في أجواء من الأكشن والحماس الذيْن لا يهدآن، الخلفية القصصية لكل شخصية ستراها تُرسم أمام أعينك بأفضل الطرق الممكنة بينما تستمر في اللعب، كل شيء يجري بسلاسة شديدة، تجانس تام بين جميع عناصر التجربة. إنها حقا تجربة من “الزمن الجميل”!
ماذا عن أسلوب اللعب؟ فهي لعبة تصويب في المقام الأول
يقوم أسلوب اللعب في BioShock Infinite على ثلاثة أعمدة رئيسية: الأسلحة والقدرات الخاصة “Vigors” التي يكتسبها اللاعب بينما يتقدم في القصة، استدعاء أغراض مختلفة من تمزقات في الزمكان “Tear”، واستكشاف العالم وحرية الحركة على الأقدام أو باستخدام الخطوط الجوية “Skylines” التي سنتحدث عنها أكثر في السطور القادمة.
في الحقيقة إن استخدام الأسلحة “Gunplay” من طريقة استعمالها، حركات إعادة التلقيم المختلفة، وأصوات الأسلحة، جميعها رائعة للغاية، تشعر وكأن كل عنصر من هذه العناصر تم إنجازه كما يجب أن يكون.
المعارك من أمتع ما يكون، حيث يتم فيها توظيف جميع عناصر أسلوب اللعب تقريبًا بأفضل طريقة ممكنة، فأنت تطلق النار بالاختيار بين عدد كبير من الأسلحة، تستخدم مجموعة كبيرة من القدرات “Vigors” الرائعة التي تغير حقًا مجريات كل معركة، وهي قدرات خارقة مميزة ومختلفة تمامًا عن بعضها، بين القدرات النارية والمائية والكهربية، والمزيد من القدرات الأخرى القابلة للتطوير.
أما عن الخطوط الجوية “Skylines” فهي خطوط أشبه بالسكك الحديدية ولكنها معلقة في السماء، يمكن التشبث بها عن طريق الخطاف “Skyhook” بسهولة، ومن عليها يمكن إطلاق النار على الأعداء أو القفز على أحدهم للقضاء عليه بضربةٍ واحدة. هي حقًا إضافة هامة تجعل أسلوب اللعب مليئًا بالحركة والحيوية، وبجانب عناصر أسلوب اللعب الأخرى، تدفع أي ملل قد يصيب اللاعب.
إحدى تلك العناصر الإبداعية هي الـ Tears، تمزقات في الزمكان توجد بها أغراض ليست موجودة في بيئة اللعبة الأساسية، فمثلًا هناك Tears بها سلاح معين ليس موجودًا على الأرض إذا أٌغلقت الـ Tear، وأخرى يوجد بها جندي آلي يمكن استدعاؤه لمساعدة اللاعب في المعارك، وغيرها من الأمور التي تضيف كثيرًا من التنوع على أسلوب اللعب. تلك الـ Tears تستطيع Elizabeth التحكم بها، ويمكن أمرها لفتح الـ Tear التي يحتاجها اللاعب. الأمر مشابه لدور Atreus مع Kratos في God of War.
تقدم BioShock Infinite نظامًا أعتبره نظام RPG مصغر أو مبسط، بإتاحة تطوير الأسلحة والقدرات حسب رغبة اللاعب من خلال منافذ البيع المنتشرة في اللعبة، بالإضافة إلى إمكانية زيادة الحد الأقصى للصحة والدرع، بجانب “الملح” -المستخدم في استهلاك الـ Vigors- عن طريق زجاجات الـ Infusion. يمكن أيضًا تعزيز جوانب معينة من أسلوب اللعب حسب رغبة اللاعب، من خلال الاختيار بين مجموعة من العتاد، بعضٌ منه يكتسبه اللاعب من البداية، والبعض الآخر يعثر عليه خلال رحلته.
عالم Columbia الخلاب بأجواء مطلع القرن الماضي وتأثيره الساحر
على الرغم من عدم كون BioShock Infinite لعبة خطية تقريبًا ولا يمكن تصنيفها من ألعاب العالم المفتوح، إلا أن الاهتمام الشديد بتفاصيل مدينة Columbia وأجوائها يجعل منها مكانًا تود زيارته فعليًا.
الأناس البسيطة التي تعيش حياةً هادئة في مدينة مبهجة، يتنزهون ويشاركون في نشاطات ترفيهية في الشوارع بينما يستمعون لموسيقى كلاسيكية جميلة، مع المباني المُحلقة من حولك في كل مكان ومعماريتها المميزة، والسفن الطائرة التي تقلُّ الناس من مكان لآخر، كلها جذبتني إلى عالم BioShock Infinite، فبجانب كون العالم أداةً هامة من أدوات السرد، هو أيضًا مصمم بدقة وعناية شديدتين، جعلتاه مقربًا إلى قلبي بكل تأكيد.
الجدير بالذكر أن عالم اللعبة لم يكن على هذا الحال في المراحل الأولى من التطوير، بل كان من المفترض أن يكون أكثر ظلامية ووحشية، ولكن لحسن الحظ أنه خرج لما هو عليه الآن.
قد يكون عالم اللعبة من أهم العوامل التي تساعد على تجلي أسلوب اللعب، بالإضافة إلى بناء أساس قوي للجانب القصصي وجعله قابل للتصديق أكثر، فهو الذي أنجح اللعبة في ترسيخ شعور بالألفة بيني وبين شوارعها، وبين شخصياتها، في وقت قصير، جعلني لا أنفك أن آمل بألا تنتهي اللعبة، ألا تنتهي مغامرات Booker DeWitt بصحبة Elizabeth، أن تظهر عقبة جديدة في طريقهما ليعملان على تخطيها وربما تكشف عن حبكة أخرى، تركت فيّ تأثيرًا صعباً بعد أن أنهيتها يصعب التعافي منه، ولا أظن أنني اختبرت الأمر ذاته مع أي لعبة أخرى سوى Red Dead Redemption 2.
إضافة Burial At The Sea تضيف بُعدًا جديدًا لـ BioShock Infinite
إذا حصلت على النسخة الكاملة من اللعبة “Complete Edition”، وهي التي أُتيحت مجانًا ضمن ثلاثية BioShock عبر متجر Epic Games منذ أكثر من شهر، تحصل فيها على إضافة Burial At The Sea، الإضافة تتكون من حلقتين مرتبطتين، والتي تستكمل أحداث اللعبة الأصلية بطريقة تجعلها بمثابة رسالة حب من المطورين للاعبين، لما فيها من صقل للقصة وتوضيح لجوانب كثيرة فيها.
الحلقتان تأتيان ببعض الأسلحة الجديدة والقدرات أيضًا، كما أن أحداثهما تقع في Rapture، مكان جديد مختلف عن Columbia، وبالتأكيد في كل منهما حبكة قوية تستحق اللعب من أجلها، ولكنها قد تكون متوقعة لمن تعمق في القصة الأساسية للعبة.
في الحلقة الأولى تلعب كـ Booker DeWitt بطل قصتنا، وفي الثانية تلعب كـ Elizabeth. في الحلقة الثانية نرى توظيفًا أوسع لعناصر التخفي وإضافة أسلحة وقدرات جديدة كليًا تساعد على خوض تجربة التخفي بشتى الطرق، كما هو الحال في المعارك المباشرة.
ولكن، هل تحتاج أي معرفة مسبقة عن عالم BioShock قبل اللعب؟
الإجابة القصيرة: لا.
القصة الأساسية لـ BioShock Infinite غير مرتبطة بشكل مباشر بقصتيّ الجزئين السابقين لها، وإذا لعبت دون أي معرفة مسبقة عن عالم اللعبة لن تواجه مشاكل في الاستمتاع بالتجربة كاملة، ولكن معرفة أحداث الجزئين السابقين ستساعد في فهم بعض التلميحات في عالم اللعبة، والتي ليس لها تأثير ملحوظ على التجربة بشكل عام.
هذا الأمر بخصوص القصة الأساسية، أما عن قصة الإضافة، وبالأخص الحلقة الثانية، ستحتاج معرفة عامة بالأحداث السابقة قبل اللعب.
ختامًا: BioShock Infinite.. تحفة منسية بامتياز
لا شك في أن BioShock Infinite من العلامات البارزة في تاريخ صناعة الألعاب، لقد قدمت ما تعجز عنه كبرى الشركات حاليًا بأضخم الميزانيات وأفخم الإمكانات، أظهرت ما يمكن نحصل عليه عندما يعمل فريقٌ شغوف موهوب على لعبةٍ ما.
القصة وأسلوب سردها أكثر ما جذباني إلى اللعبة، وأعتبرهما الأمرين الذيْن يستحقان خوض التجربة من أجلهما، فصدقني الأمر ليس مجرد مطاردة مملة للعثور على فتاة ما وإحضارها حية، أنا على يقين تام بأن من لعبوا BioShock Infinite يدرون ما تتوق أصابعي لكتابته في هذه السطور، ولولا كون حرق الأحداث جريمة غير أخلاقية لأصبحت هذه السطور صفحات لما لدي من حماسة لوصف روعة القصة ومناقشة حبكاتها المفاجئة، تفاصيلها الصغيرة وأحداثها الجانبية تزيد من روعتها، ولكن للأسف لا يمكنني مشاركتك سوى الطبقات السطحية لهذه التجربة لكي تستمتع وتتفاجأ وتتفاعل مع هذه التحفة كما ينبغي.
إذا لم تلعب Bioshock Infinite من قبل، فأنت على موعد مع إحدى التجارب الكاملة المتكاملة في عالم الألعاب، تجربة تحبس الأنفاس وتجذب الاهتمام منذ الثانية الأولى وحتى عرض الشارة، ما من لحظات ملل، ما من مهام جانبية تستخف بعقول اللاعب، ما من مهام رئيسية بلا هدف يخدم القصة الأساسية. منذ أولى اللحظات وأنت في خضم المعارك، الجميع يريد النيل منك وأنت لا تدري إطلاقا ماذا يجري من حولك. بين قصةٍ مشوقة بحبكة ممتازة، وأسلوب لعب خرافي يستحيل أن تملَّ منه، وعالم ساحر يأسر اهتمامك من الوهلة الأولى، تقف BioShock Infinite بين أفضل الألعاب على الإطلاق، ذلك حتى بمعايير اليوم.
ما يحزنني حقا هو أن الثلاثية بأكملها لا تحظى بما تستحقه من اهتمام وتقدير من مجتمعنا العربي، حتى بعد أن صدرت مجانا عبر متجر Epic Games منذ ما يزيد عن الشهر، على الرغم من حصدها لجوائز عديدة أهمها جائزة لعبة السنة، وعلى الرغم من خلوها من أي أجندات أو تلميحات تخالف ثقافتنا وتعاليم ديننا. الأمر الذي لا يجعلها تحفة فنية فحسب، بل هي للأسف، تحفة منسية.
الأجزاء السابقة من سلسلة تحف منسية:
سلسلة مقالات تحف منسية (الجزء الأول): Bully
سلسلة مقالات تحف منسية (الجزء الثاني): Silent Hill