إذا كان لديك خيار العودة بالزمن إلى الوراء قليلًا وزيارة بدايات عام 2000 لإجراء استطلاع رأي يخص الهواتف المحمولة، فستحصل على بعض الإجابات الصادمة بالتأكيد. كانت الشركة التي تُجاهد من أجل الحصول على حصة 1٪ فقط في صناعة الهواتف الذكية حاليًا مرادفًا لمفهوم الهواتف المحمولة منذ بضعة عقود. لا تتفاجأ! كانت نوكيا تُنافس نفسها في تلك الحقبة الزمنية.
بالنسبة للعديد من الأشخاص، هاتف نوكيا كان أول هاتف محمول قاموا بشرائه، وجيل التسعينات سيعي كلامي جيدًا. لقد نجحت في أن تكون العلامة التجارية الأكثر مبيعًا وصارت اسمًا مألوفًا في غضون عقد من الزمان. لقد نجحت الشركة في التغلغل داخل جميع شرائح المجتمع من خلال طرح هواتف مختلفة وبأسعار متنوعة.
كانت نوكيا رائدة الابتكار في أوج فترتها الذهبية. في عام 1996، أطلقت أول هاتف ذكي في العالم، Communicator، وكانت مسؤولة أيضًا عن أول هاتف مزود بكاميرا من نوكيا في عام 2001، وهاتفها الذكي من الجيل الثاني، 7650 المبتكر.
مُتقلبات الحياة سريعة للغاية. لم تنجح نوكيا باللحاق بركب المتطورين، وانخفضت مبيعاتها إلى الحد الذي لم يكن أمامها فيه خيار سوى بيع قسم الهواتف المحمولة. لذا، كيف يمكن أن تفشل شركة ناجحة إلى هذا الحد؟ ما الذي أدى إلى فشل نوكيا وسقوطها إلى الهاوية بهذا الشكل؟
العصر الذهبي لنوكيا
من مجرد شركة ناشئة إلى عملاقة عالم الاتصالات، نجحت نوكيا في تسلق سُلم النجاح مثل أي شركة موبايل أخرى.
البداية كانت من عُشرون عامًا في 1992 عندما نجحت نوكيا في الكشف عن أول هاتف GSM في العالم وهو Nokia 1011. لم تكتفِ الشركة بذلك الحد ولم يُوقف طموحها سوى السماء حيث تمكنت في 1998 في تخطي موتورولا لتتربع على عرش الأكثر مبيعًا، ولكن ما زالت لم تُشبع رغبات نوكيا بعد.
في أوج تألقها، نجحت نوكيا في الاستحواذ على 49.7% من حصة الهواتف الذكية العالمية، وهو سجل المبيعات الأفضل في العالم حينها. لقد نجحت في الإلمام جيدًا بعالم صناعة الهواتف المحمولة ويُحسب لها أنه لم تستطع أي شركة على الإطلاق حتى وقت كتابة تلك السطور من تحقيق هذه النجاحات.
ومع حلول عام 2007، خلف الكواليس والأبواب المُغلقة، لم تكن تسير الأمور على ما يُرام. كانت بوادر الانهيار تظهر تدريجيًا داخل جُدران الشركة، لقد بدأ الأمر من داخل الإدارة العليا، ومثل قطع الدومينو، واحدة تلو الأخرى، كل شيء انهار.
الجدول الزمني لانهيار نوكيا
بعد النجاح في الهيمنة على صناعة الهواتف المحمولة لأكثر من عقد من الزمان، حدث انخفاض رهيب في مبيعات نوكيا، ولكنه كان هبوط منطقي نتيجة للعديد من القرارات الإدارية المُتخبطة والبيئة الخارجية.
- التغيير في الهيكل الإداري: في عام 2006، تم طرد الرئيس التنفيذي يورما أوليلا وتعيين بيكا كالاسوفو بدلًا منه. قد يبدو تغييرًا إداريًا عاديًا ولكنه كان بداية الخراب نوكيا حيث قرر ذلك الرئيس الجديد أن تجربة التكنولوجيا الجديدة ليس مُجديًا وأن الأفضل للشركة هو الاستمرار في صنع الهواتف التقليدية.
- ظهور مُنافسين جدد: في عام 2007، ظهرت شركة مُنافسة جديدة في عالم الهواتف الذكية وهي آبل التي أثارت الكثير من الجدل حينها بإطلاق أول هاتف iPhone لها. لم تُعر نوكيا لذلك أي اهتمام ورأت أن ذلك الجهاز الجديد لن يؤثر إطلاقًا على مبيعات هواتفها نظرًا لأنه يدعم تقنية 2G بينما تستخدم هواتفها تقنية 3G.
- في عام 2008، قامت جوجل بإزاحة الستار رسميًا عن نظام التشغيل أندرويد، ولكن بحلول هذا الوقت كان أغلب المستخدمين يقعون تدريجيًا في حب نظام التشغيل iOS الخاص بآبل وصار يتمتع بشعبية كبيرة وهو ما انعكس على مبيعات هاتف آيفون بشكل ملحوظ. بدأت نوكيا تعي قليلًا خطورة الموقف وكان من المفترض أن تُحول أجهزتها إلى نظام تشغيل أندرويد، لكنها قررت العدول عن ذلك واستمرت في طرح هواتف بنظام تشغيل Symbian البدائي.
- التأخر في إطلاق الهواتف الجديدة: كشفت نوكيا عن هاتف N97 في عام 2010، وكان الهاتف الأول حينها الذي يأتي مدعومًا بنظام تشغيل Symbian^3، ولكنه للأسف كان إصدارًا مُتأخرًا وكان المستخدمين قد اتجهوا لخيارات أخرى بالفعل، وبالتالي فشلت Nokia في اللحاق بركب آبل التي بدأت تتحسس خطوات النجاح، وبجوجل التي كانت تصعد تدريجيًا. نتيجة لذلك تم طرد الرئيس التنفيذي، وحل محله ستيفن إيلوب الذي جاء من مايكروسوفت.
- الدخول في شراكة مع مايكروسوفت: من أجل إنقاذ ما يُمكن إنقاذه ومحاولة تعويض الخسائر المهولة التي تكبدتها، دخلت نوكيا في شراكة مع مايكروسوفت في 2011 من أجل تطوير أول هاتف يعمل بنظام التشغيل ويندوز، وقررت أن تتخلى عن أنظمة التشغيل القديمة مثل MeeGo و Symbian. ولكن لم ينجح ذلك الهاتف في إحداث تأثير على عالم الهواتف الذكية الذي بدأت تتشكل معالمه بالفعل حينها، والسبب كان وجيه ومنطقي، لا يوجد عدد كافي من التطبيقات على متجر ويندوز، على الجانب الآخر كانت الأمور تسير على ما يُرام في متجري جوجل بلاي وآب ستور.
- مايكروسوفت تستحوذ: كانت نوكيا على حافة الإفلاس في 2014، لكن تدخلت مايكروسوفت في الوقت المناسب وقامت بالاستحواذ على الشركة في صفقة قُدرت بـ 7.2 مليار دولار، وهو ما شكّل المسمار الأخير في نعش نوكيا.
الأسباب الحقيقية لفشل Nokia
لم تهبط شركة نوكيا إلى الهاوية من تلقاء نفسها بل كانت هناك العديد من العوامل والأسباب التي ساهمت في ذلك، إليكم أبرزها:
- فشل التكيف مع مُتطلبات السوق: على الرغم من إدراكها أن الطلب على السوفت وير كان أكثر من الهاردوير، إلا أن Nokia تمسكت بأساليبها القديمة ولم تتكيف مع بيئة العمل المتغيرة. عندما أدركت نوكيا خطأها في النهاية، كان الأوان قد فات للأسف، لأن المستخدمين بالفعل حينها انتقلوا إلى هواتف أندرويد وApple.
- غياب عُنصر الابتكار: كانت نوكيا صاحبة السبق في ابتكار العديد من التقنيات الرائدة أثناء فترتها الذهبية، فقد كانت الشركة الأولى التي تطرح أول هاتف يعمل بتقنية 3G، كما رأينا أول هاتف كاميرا على الإطلاق وكان من تطوير نوكيا. التطور والابتكار هما من أبرز سمات العصر الحالي، وعندما نتحدث عن التكنولوجيا فإن عنصر الابتكار هو العامل الحاسم في سباق المنافسة، أدركت نوكيا ذلك ولكن من منظور تجاري يتمثل في مضاعفة الإنتاج وغزو الأسواق بأكبر عدد ممكن من الهواتف بسبب نمو معدل الطلب على هواتفهم. التركيز على حصد الأرباح والتواجد في جميع الأسواق قلل من اهتمام الشركة بابتكار وتطوير تقنيات جديدة وهو ما استغلّته سامسونج وآبل وبدأوا سريعًا في تأسيس قاعدة مستخدمين شيئًا فشيئًا بفضل أنظمة تشغيلهم المُبتكرة والسلسة.
- الثقة المُبالغ بها: المثير للدهشة أنه وسط كل هذه التطورات والتقلبات، لم تُفكر إدارة نوكيا سوى في أن الأمور تسير على ما يُرام وأنه لا يوجد ما يدعي للقلق بشأن ظهور المنافسين الجدد الذين يغزون الأسواق بتقنياتهم المُبتكرة. الغرور هو المخدر الذي يُسكّن ألام الغباء.
- تغييرات عبثية في الإدارة: تحولت نوكيا فجأة إلى هيكل المصفوفة التنظيمي حيث يتواجد الرؤساء والمُدراء بالأعلى ويقع تحتهم العديد من الموظفين المسئولين عن موظفين آخرين كذلك في تسلسل هرمي رتيب، حيث يعني ذلك أن أي قرار أو فكرة مُبتكرة يجب أن تُمرر للكثير من الموظفين قبل أن تصل لسُلطة اتخاذ القرار، يا لها من رحلة شاقة! كان هذا هو السبب الذي أدى إلى استقالة الكثير من الكوادر البارزة داخل الشركة.
- الانشغال في مشاكل خارجية: صرح أحد كبار المسئولين في نوكيا في 2009 بأن الشركة انشغلت في أمور سياسية خارجية أبعدتها عن التركيز في تطوير التقنيات الجديدة. لم يكن يوجد أي تنسيق سليم بين جميع الأقسام داخل الشركة على الإطلاق. خلق ذلك الأمر وجود حالة من الانعزال الإداري وهو ما ساهم بدوره في انهيار Nokia.
- الخروج من سباق المنافسة: كانت نوكيا لا تزال تتمسك بتصميم الهواتف التقليدية في ذلك الحين، في حين أن سامسونج وآبل وجهّا كامل تركيزهما على صنع هواتف تُقدم تجربة سوفت وير متميزة، حاولت نوكيا مُجاراة ذلك الأمر عن طريق إطلاق هاتف N97 مع نظام تشغيل جديد ومُطور هو Symbian، ولكن للأسف كان الأوان قد فات لأن سامسونج وآبل عرفوا من أين تُؤكل الكتف.
- منافسة داخلية غير مُبررة: لقد انتهت نوكيا جميع الأسس الإدارية المعروفة خلال فترتها الأخيرة، حيث قامت بتقسيم المُهندسين المُختصين بالتطوير إلى فريقين، تولى كل فريق مهمة تطوير نظامي تشغيل Symbian و MeeGo. كان كل فريق يرى أنه أفضل من الآخر وأن نظام التشغيل الخاص به أكثر سلاسة من النظام الآخر، تلك المنافسة العكسية أدت إلى تأخير إطلاق الكثير من الهواتف للأسف.
- الإدارة غير مُستقرة: تم تغيير المُدير التنفيذي للشركة مرتين خلال 5 سنوات، لم ينجح الموظفون في التكيف مع أفكار ورؤى كل مدير جديد وبالتالي لم تستطع الشركة البقاء على مسار إداري مُوحد.
- العدول عن استخدام أندرويد: يبدو أن أحد الأخطاء القاتلة التي أدت إلى انهيار نوكيا كان تضييع فرصة التعاون مع جوجل وتصميم هواتف تعمل بنظام تشغيل أندرويد. رفضت Nokia تلك الخطوة على الرغم من أن نظام أندرويد حينها كان سلسًا للغاية ويحتوي على حزمة رائعة من التطبيقات الموجودة في متجره، كان سيكون لنوكيا شأنًا آخر لو تحولت إلى أندرويد في ذلك الوقت.
- الشراكة القاتلة مع مايكروسوفت: أعلنت نوكيا عن حدوث اتفاقية تعاون مع مايكروسوفت في 2011 من أجل إطلاق هواتف ذكية تعمل بنظام التشغيل ويندوز، ولكنها لم تحقق النجاح بس متجر تطبيقاتها الفقير، نوكيا أصبحت بعدها على حافة الإفلاس لولا تدخل مايكروسوفت وشراء قسم الهواتف المحمولة في 2014.
ماذا عن الآن؟
حتى يومنا هذا، ما زالت نوكيا موجودة، ولكنها ليست كما كانت في الماضي بالتأكيد. لقد انتهى عصرها الذهبي منذ زمن بعيد، لكنها ما زالت تحاول تصحيح المسار من خلال عدم تكرار أخطاء الماضي.
ركزت نوكيا على المعدات الخاصة بشبكات الاتصال، بعد بيع قسم الهواتف المحمولة في عام 2014. تعمل الآن شبكات نوكيا في أكثر من 150 دولة، واقتحمت الشركة مؤخرًا كذلك مجال البنية التحتية للشبكات اللاسلكية والثابتة، ومنصات خدمات الاتصالات والشبكات، والخدمات المهنية المشغلين ومقدمي الخدمات. احتل تصنيف نوكيا في البنية التحتية العالمية للاتصالات المرتبة الخامسة في عام 2018 مما يُمهد طريقها إلى القمة في ذلك المجال.
باعت مايكروسوفت في المقابل قسم الهواتف المحمولة الخاص بنوكيا في 2016 إلى شركة HMD Global مقابل 350 مليون دولار فقط، وهي صفقة منطقية نظرًا لأن مُلاك تلك الشركة هما مديرين تنفيذين سابقين في نوكيا.
ومن بعدها تم إطلاق الكثير من الهواتف التي تعمل بنظام تشغيل أندرويد تحت اسم Nokia. لاقت بعض الهواتف استحسان بعض فئات المستخدمين ولكن لا يزال الطريق طويلًا للأسف من أجل اللحاق بركب المنافسة الحالية.
لا يمكن تفسير انهيار نوكيا سوى بإجابة واحدة بسيطة: لقد لعبت قرارات الإدارة والهياكل التنظيمية المختلة والبيروقراطية المتزايدة والمنافسات الداخلية العميقة دورًا في منع نوكيا من إدراك التحول من المنافسة القائمة على المنتج إلى المنافسة القائمة على الأنظمة الأساسية.
تمثل قصة هواتف نوكيا المحمولة سمة مشتركة نراها في الشركات الناضجة والناجحة: النجاح يولد التحفظ والغطرسة التي تؤدي، بمرور الوقت، إلى التفكير بشكل غير منطقي مما يؤدي إلى قرارات إستراتيجية سيئة. في الوقت الذي تبنت فيه الشركات أفكارًا جديدة وتقنيات مبتكرة، اختارت نوكيا أن تكون أقل إبداعًا من أجل تجنب المُخاطرة. ستكون مثل هذه الاعتبارات حاسمة بالنسبة للشركات التي ترغب في النمو وتجنب أحد أكبر التهديدات المعطلة لمستقبلها – نجاحها.
من المغري إلقاء لوم انهيار نوكيا على كاهل آبل وجوجل وسامسونغ. ولكن هذا يتجاهل حقيقة مهمة للغاية: بدأت نوكيا في الانهيار من الداخل قبل دخول أي من هذه الشركات إلى سوق الهواتف المحمولة. في هذه الأوقات من التقدم التكنولوجي والتغير السريع في السوق والتعقيد المتزايد، يوفر تحليل قصة صعود وهبوط نوكيا دروسًا مفيدة لأي شركة ترغب في الحفاظ على مكانة رائدة في مجال صناعتها.