مقالات

سلسلة مقالات تحف منسية (الجزء الرابع): LA Noire

في يوم من الأيام كنت أرتدي بدلة زرقاء بلون الماء، وأتجه نحو أحد المحال والذي كانت تفوح منه رائحة الياسمين لأبتاع بعض الورود الجميلة فقط لغرض أن أضعها في منزلي زينًة للناظرين. صوت المذياع القديم يزف لأذنيّ الموسيقية أصوات نجم الجاز الأمريكي فرانك سيناترا. أخرج من ذلك المتجر لأركب سيارتي التي يسيطر عليها عبير الأربعينيات. تأكدت أنني أعيش تفاصيل الحلم الأمريكي بحذافيره، طبقًا للصورة التي جعلتني أفلام مثل Casablanca و It’s A beautiful world أرسمها للحياة في تلك الحقبة الزمنية.

أستيقظ لاحقًا من نومي العميق لأكتشف أنه كان حلمًا جميلًا، لم يدم سوى لدقائق، أشاهد لاحقًا في يومي فيلمًا بعنوان LA Confidential ليدمر تلك الصورة النمطية التي رسمتها تلك الأفلام (اللي منها لله) في دماغي عن الحياة في لوس أنجلوس، مدينة الملائكة التي يسكنها شياطين الإنس والجن بكل أشكالهم. لقد أعجبني الفيلم كثيرًا وخرجت من تجربة مشاهدتي له باستنتاج وحيد، أن الحياة في تلك المدينة تخرج أسوأ ما في الإنسان، وهو ما يجعلها المرشح الأول لتكون مسرحًا لأفلام الجريمة والتحقيق، والتي زاد فيلم LA Confidential إعجابي بها.

كننت أحلم دومًا بلعبة فيديو تحاكي تجربة أفلام التحقيق التي تدور في ذلك العصر، وعرفت كل شيء عن لعبة LA Noire بمحض الصدفة وبشكل مفاجئ قبل صدورها بيومين فقط، ولم أنم حتى قمت بتجربتها لساعات وساعات على جهاز Xbox 360 الخاص بي، وقد كانت كل ما أتمناه في لعبة فيديو عن تلك الحقبة وهذا النوع. والجدير بالذكر أيضًا أنها اللعبة الأولى من نوعها (لعبة تحقيق) بهذا الحجم وهذه القيمة الإنتاجية لذلك سنتحدث عنها باستفاضة، اليوم في الجزء الرابع من سلسلة تحف منسية.

سرد سينيمائي يشبه سرد أفلام التحقيق الكلاسيكية: “خلطة” مضمونة في الأفلام ولكن هل تنجح في لعبة؟

في مجملها، لعبة LA Noire تتبنى الخطوط العريضة لألعاب روكستار في هويتها كونها لعبة عالم مفتوح تتيح إمكانية التنقل بالسيارة أو سيرًا على الأقدام، واستخدام الأسلحة النارية، واتباع الأسلوب السردي السينيمائي، ولكن التفاصيل هي التي تجعلها لعبة مختلفة عن أي لعبة من روكستار.

التفاصيل تكمن في أسلوب السرد المستوحى من أفلام التحقيق الكلاسيكية وأسلوب اللعب الذي يعطيك حرية التحقيق في القضية وجمع الأدلة واستجواب المتهمين، وحتى اختيار المذنب بما في ذلك من عواقب يكون عليك تحملها بعد الاختيار. سنتحدث باستفاضة عن أسلوب اللعب في السطور القادمة، ولكن الآن دعنا نتطرق للقصة والسرد.

القصة تدور حول Cole Phelps وهو جندي عائد من الحرب العالمية الثانية بسبب إصابة جعلته غير قادر على الخدمة في الجيش. يعمل (Cole) كشرطي يعيش أعراض اضطراب ما بعد الصدمة من هول ما رآه في الحرب من عنف ودماء. في البداية يعمل كشرطي دورية (Patrol officer) ومع الوقت ينتقل من قسم الدورية إلى محقق في قسم جرائم المرور، ثم إلى جرائم القتل، ثم إلى قسم الممنوعات والدعارة (Vice) وأخيرًا إلى الحرائق المٌفتعلة (Arson).

كل مرحلة في حياة Phelps المهنية تمثل فصلًا من فصول القصة، وداخل كل فصل هناك مهام على هيئة قضايا تبدأ كل منها بشكل شبيه بمسلسلات التحقيق، حيث تعرض الجريمة بشكل غامض، ثم تنتقل الأحداث لأبطالنا الذين يتسلمون القضية ويحاولون الاقتراب من المجرم، والعثور عليه. من يعرف الحد الأدنى من المسلسلات الأمريكية من نوع التحقيق سيكون على علم تام، بل وشاعر بالراحة والأُلفة، مع الطريقة المُتبعة في السرد.

مع كل قسم ينتقل إليه Phelps يحظى برفيق مختلف، ويمثل هذا العنصر في القصة عماد من أعمدة السرد لأن كل شخصية من رفاق Phelps على مدار عمر القصة تتمتع بسمات مختلفة، ويمثل جانب من جوانب الاستعراض القصصي لعالم اللعبة والشخصيات فيه باختلافاتهم الفكرية وأيديولوجياتهم، وحتى آرائهم حول الأحداث التي يمرون بها.
الرفقاء كانوا:

Stefan Bekowsky (المرور): أول رفيق فعلي لبطلنا Cole Phelps يتسم بالذكاء والشجاعة وحسه التحقيقي العالي. دائمًا ما يمتلك أراءً سديدة ليقولها، ويجعل اللاعب يفكر فيما يقوله. الحديث معه دائمًا ما كان ممتعًا.

Rusty Galloway (جرائم القتل):شخص حكيم وعاقل يحاول دائمًا التفكير بالمنطق ويمتلك أراءً سديدة ولكنه يختلف اختلافًا كبيرًا عن فيبلس في أنه لا يرى خطأ في أسلوب الحياة الأمريكي (The American Way).

Roy Earle (الدعارة والمخدرات): شرطي فاسد يولي مصلحته الشخصية على مصلحة جهاز الشرطة، وقد يمارس نشاطات مشبوهة فقط لتحقيق مصالحه الشخصية، كمساعدة أحدهم على الإفلات، أو التجارة في الممنوعات بأنواعها، وهو أبعد ما يكون عن فيلبس.

Herschel Biggs (الحرائق المتعمدة) محقق كبير في السن، وعنيد، رفض لسنوات طويلة العمل مع شركاء، ولكن أجبرته الظروف على أن يقبل العمل مع فيلبس الذي كان قد فقد الثقة في كل من حوله. علاقتهم كانت مبنية على الخلاف ولكن سرعان ما سترى بأنه أقرب الشخصيات شبهًا لفيلبس في طريقة تفكيره.

معظم الحوارات بين الشخصيات تكون أثناء القيادة بين نقاط المهمات الأساسية، وهي الفرصة الأكبر التي تتعرف من خلالها على الشخصيات وعالم اللعبة، بما في ذلك شخصية البطل Cole Phelps. وضعتني الحوارات في مواقف كثيرة كنت فيها بين وجهتي النظر أستطيع تفهم كلٍ منهما، ونجحت الحوارات في جعلي أصدق العالم والشخصيات على الرغم من عدم وجود الكثير لتفعله فيه.

لقد استمتعت بعالم LA Noire أيضًا وأعتبره أحد أبطال قصتها لأنني كنت أشعر أنني أعيش في مدينة لوس أنجيلوس الأمريكية بالفعل أثناء وقت تجربتي للعبة. لقد شاهدت كل معالمها، ووقعت في حب سياراتها القديمة، وأحيائها الغنية، وجانب هوليوود فيها الذي يمتلك رونقه الخاص، المجد ينادي الجميع في كل أركانه، والأهم أن ذلك العالم الجميل في شكله، سرعان ما اكتشفت كم هو قبيح في مضمونه.

الحرب العالمية الثانية انتهت لتوها، ويعاني الأمريكيون من آثارها الاقتصادية فتجد من يتجهون إلى ارتكاب الجرائم كبديل سريع لأزماتهم الاقتصادية المتتالية، وهناك الكثير من الأفراد الذين لقوا حتفهم في الحرب، تاركين خلفهم أسرهم وبالتالي آباء متغيبين، وأسر مفككة، فتيات تتجهن لهوليوود بحثًا عن المجد الفني فتجد نفسها متورطةً مع ضعاف الأنفس من المخرجين الذين يستغلون المراهقات، وكذلك الأولاد أصحاب البشرة السوداء الذين تُمارس العنصرية ضدهم في بلاد “الخشب المقدس” ويتم النظر إليهم كونهم مجرمون بالفطرة. ستشعر في لحظات أن المدينة الجميلة هذه على صفيح ساخن وجاهزة للانفجار في أي وقت. جمال LA Noire يتجلى بأن جعلتني أرى عالم الجريمة الذي يفوق ما يستطيع أحد توقعه حتى أكثر من فيلم Chinatown الذي كان فيلمي المفضل عن هذه الحقبة.

إذا قارنّا لعبة LA Noire بأعتى أفلام التحقيق، فإنها تمتلك أفضلية عمر اللعبة الذي يمتد إلى 15 ساعة من اللعب، وهو وقت بالطبع يزيد عن توقيت عرض أي فيلم، ولذلك فإن الأبواب كانت مفتوحة على مصراعيها لتطور الشخصيات والحصول على خاتمة درامية عظيمة.

LA Noire هي واحدة من الألعاب القليلة التي كنت مشغولًا بالتصفيق بحرارة مع ظهور تتر النهاية، كل شيء حول القصة جميل بما في ذلك النهاية غير المتوقعة بالمرة، السؤال الآن، ماذا قدمت اللعبة على صعيد أسلوب اللعب ليجعلها لعبة فيديو ناجحة؟ سأجيبك خلال الفقرة القادمة.

أسلوب اللعب كان نقطة التمييز والتقصير معًا

الحرية التي تتيحها ألعاب Rockstar كانت تحديًا كبيرًا أمام مطوري لعبة LA Noire، أولًا لأن آليات التحقيق، وتقنيات التقاط حركات الوجه استنفذت ميزانية اللعبة كلها تقريبًا، ولكن كانت طبيعة ما تمليه القصة أيضًا سببًا وجيهًا، فالحرية في ألعاب Rockstar تعني بالضرورة الحرية في ارتكاب العنف، ولكن القصة تضعك في دور ضابط شرطة صاحب مبادئ، وإتاحة هذه الحرية كانت تعني تناقدًا صارخًا مع القصة.

تحف منسية LA Noire

عني ذلك ألا تتيح اللعبة للاعبيها إمكانية إشهار أسلحتهم النارية التي تعود إلى الأربعينيات سوى في أوقات محددة، وأن يبقى جانب القتال حكرًا على أوقات بعينها. فيما عدا ذلك ركز أسلوب اللعب كاملًا على تقديم الحرية في التحقيق.

مسرح الجريمة هو مساحة حريتك. يمكنك التجول والبحث عن أدلة تدلك على هوية القاتل أو تقربك إلى طرف خيط جديد، وهو ما تبرع فيه اللعبة. مسارح الجريمة مصممة بشكل احترافي وواقعي للغاية ويسهل فيه تجاوز بعض الأدلة الهامة عن غير قصد. نتاجًا للأدلة التي جمعتها، تظهر لك دلائل أخرى يمكنك مطاردتها، وتتاح لك دائمًا جلسات استجواب، يمكنك في بعض الأحيان اختيار استجواب المتهمين بعد البحث أكثر، ويمكنك أستجوابهم في أقرب الفرص المتاحة لك. يتأثر مسار الاستجواب بكم الدلائل التي تمتلكها ضدهم، ويمكنك باستخدام المسار الصحيح للتحقيق أن تتسبب في اعترافهم بالجريمة، أو إذا أخفقت في إيجاد الدلائل اللازمة، ينتهي بك الوضع أمام قضية غير صلبة، وبالتالي يكون عليك إتهام شخص بريء.

تحف منسية LA Noire

ما عواقب فعل ذلك؟ ليس هناك عواقب حقيقة سوى غضب مديريك منك، والإخفاق في أكثر من قضية بشكل متتالي يتسبب في إعادتك إلى آخر القضايا التي خسرتها. يعتبر هذا هو العيب الرئيسي في اللعبة بجانب افتقار العالم المفتوح لأي نشاطات جانبية تمكنك من الاستمتاع به فيما بعد نهاية القصة.

تحف منسية LA Noire

تأخذك اللعبة إلى قسم الشرطة، والمشرحة، وغرف التحقيقات، ومكاتب المدراء، ومكتبة LA المركزية، ومتحف الفنون الشهير، وغيرها من الأماكن المصممة بشكل عظيم على الصعيد البصري. تمتلك أيضًا LA Noire الكثير من لحظات المطاردة سواء كانت بالسيارة أو على الأقدام، كما أن المعارك اليدوية كانت مصممة بشكل عظيم ومتقن.

إذًا، التحقيق والأكشن معًا، والحرية في تسيير التحقيقات، كانوا أسس أسلوب اللعب، ولكن ضحالة العالم على الصعيد العملي كان سيد الموقف بعد الانتهاء من القصة. لا أجد وصفًا للعالم سوى “انظر ولكن لا تلمس Look but don’t touch”

التكنولوجيا التي كانت من المفترض أن تغير صناعة الألعاب:

تحف منسية LA Noire

التجديد الثوري الذي اعتمدت عليه LA Noire هو تقديم تكنولوجيا التقاط جديدة لحركات الوجوه بتفاصيل أكبر عن طريق استخدام 32 كاميرا لالتقاط كامل تفاصيل الوجوه الخاصة بالممثلين، من زوايا مختلفة. وهو ما أتاح إمكانية تقديم آليات تحقيق ثورية، ومعرفة ما إذا كان المتهمون مذنبون من خلال تعابير وجوههم، والذي اعتبره الكثيرون “الخطوة الجديدة” في الصناعة ولكنه أضر كثيرًا بميزانية اللعبة خصوصًا أنها كانت عنوانًا جديدًا (New IP) غير مضمون نجاحه، وبالتالي كان قرار توقيف العمل على أي أجزاء مستقبلية خبرًا منطقيًا في ذلك التوقيت بعد أن باعت اللعبة أقل من المتوقع. لكن هل غيرت تلك التقنية الصناعة بالفعل؟ في الحقيقة لا، هناك طرق أفضل لتصميم وجوه أكثر واقعية حتى من LA Noire، وأولها هو CGI أو تقنيات التقاط الحركات الحديثة، و Mafia Definitive Edition هي أكبر مثال قابل للمقارنة يمكنني الاستشهاد به.

تحف منسية LA Noire

حصلت LA Noire أيضًا على إصدار خاص بنظارات الواقع الافتراضي وكان إصدارًا رائعًا في مجمله. بالنسبة لي هو أفضل لعبة VR على الإطلاق إذا كنت لا تعاني من المشاكل المرضية التي تصاحب استخدام الواقع الافتراضي مثل الدوار والصداع الشديدين، وأعتقد أنه إذا تم العمل على جزء جديد لا بد أن يكون هناك جانب يخص الواقع الافتراضي فيه.

تحف منسية LA Noire

مشكلتي مع غياب LA Noire عن الساحة في الوقت الحالي هو عدم وجود ألعاب أخرى مشابهة. الحصول على لعبة تحقيق بميزانية ضخمة AAA كان حلمًا بالنسبة لي، لم تشبعه سوى LA Noire ولا تزال إلى الآن ألعاب التحقيق تقدم جودات عادية إلى سيئة بسبب قيمتها الإنتاجية. ألعاب مثل The Sinking City و Sherlock Holmes لا تعتبر البديل اللائق للعبة روكستار للتحقيق.

تحف منسية LA Noire

في النهاية، باعت اللعبة 5 ملايين نسخة في المجمل، أي أنها ليست لعبة فاشلة على الإطلاق، وقد أعاد إصدار نسخ محسنة للجيل السابق منها في عام 2017 الأمل في قلوب وعقول كل من وقع في حب اللعبة مثلي، ولكن ربما رأت روكستار أن الوقت لا يزال مبكرًا لإعادة إحياء ذلك المشروع الطموح مرة أخرى، خصوصًا وأن الجزء الجديد لا بد أن يكون أفضل بمقاييس الشركة. أغلق أستوديو Team Bondi أبوابه، وسيكون على مطور آخر استلام مهمة صعبة وإرثًا ثقيلًا. أعتقد أن هذه اللعبة تعتبر تحفةً منسية لأنها على الأرجح ستبقى في سُبات لفترة طويلة، بسبب تركيز روكستار على مشاريعها ذات النجاح المضمون، مثل GTA VI و Red dead Redemption 3.

اقرأ الأجزاء السابقة من سلسلة تحف منسية:

سلسلة مقالات تحف منسية (الجزء الأول): Bully
سلسلة مقالات تحف منسية (الجزء الثاني) : Silent Hill 2
سلسلة مقالات تحف منسية( الجزء الثالث): Max Payne 2

Mostafa Argoun

رئيس التحرير ومدير المحتوى بالموقع،أحب ألعاب الفيديو منذ زمن بعيد، وأول لعبة قمت بتجربتها كانت لعبة فيلم هرقل (Hercules) علي الحاسب الشخصي. أحب ألعاب الRPG وخصوصًأ التي تهتم بالقصة وتفرعاتها، ولا مانع من ألعاب اللعب الجماعي التي تقدم شيئًا جديدًا، وتحترم وقت اللاعبين. أعمل في صحافة الألعاب منذ عام 2012 وأحب الكتابة كهواية جانبية.
زر الذهاب إلى الأعلى